عبدالمحسن هلال

هل فاجأت تسريبات موقع ويكي أحدا؟ دعوا جانباً دقة التفاصيل وتواريخ الأحداث وتسلسلها، أليست في مجملها وتصوراتها العامة هي ما كان يكتبه كثيرون، من ضمنهم شخصي المتواضع، وكانوا يتهمون بسببه بمعاداة أمريكا أو أن لهم موقفا أيديولوجيا منها، ألم يكونوا يوصمون من قبل الكتبة المارينز العرب، محبي أمريكا، بأنهم أعداء الديمقراطية والحرية والشرق أوسطية وباقي السمفونية الأمريكية؟
لا جديد في التسريبات عما كان معروفا لدى كثيرين عن كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق سوى معرفة مصدرها المحلي، لا شيء جديد عن المذابح ضد المدنيين هناك سوى معرفة أن بعضها كان يتم لتسلية الجنود الضجرين البعيدين عن وطنهم وأهلهم وأصدقائهم وملاهيهم. بل إن كل ما كان يحدث من جرائم سواء في العراق ولبنان أو أفغانستان والسودان وفلسطين، لم يكن نتيجة حوادث فردية أو بسبب نيران صديقة، بل سياسات إستراتيجية اتخذت على أعلى المستويات، حتى مع إيران وتركيا، حلفاء العرب المحتملين، كانت محاولات الاستعداء والوقيعة تجرى على قدم وساق، ألم يخوفونا من النووي الإيراني الجنيني ويلووا أعناقنا قسراً عن النووي الإسرائيلي المغروس في جنوبنا، ألم يحذرونا من العثمانيين الجدد الراغبين في إعادة سيطرتهم على العرب؟!
سأصدق السيد بيرنز، مساعد وزيرة خارجية أمريكا، أن بلاده تضررت كثيراً من نشر الوثائق، لدرجة اضطرارها إلى استبدال دبلوماسييها الملوثين ممن وردت أسماؤهم بغيرهم حفظاً لماء الوجه، بعد أن عملوا كجواسيس لكل من تعامل معهم، من يصدق أنه حتى موظفو الأمم المتحدة وأمينها العام لم يسلموا من سوءة التجسس هذه. سأصدق أيضا السيد بريزنسكي، مستشار الأمن القومي الأسبق أن هناك انتقائية في النشر واحتمال وقوف أجهزة مخابرات كبيرة وراءه، لا أستبعد شركاء أمريكيين، أما في الانتقائية فتصوروا أن صحيفة بحجم وسمعة النيويورك تايمز تنسق مع حكومتها لنشر ما تريد، ماذا تركت التايمز لصحف العالم الثالث، حقاً إن تفجيرات سبتمبر جعلت أمريكا دولة عالمثالثية. لكني أيضاً سأصدق وزير دفاع أمريكا الحالي الذي تبجح بالقول إن كل أجنبي تضرر من التسريبات سيعود للاستعانة بأمريكا، لماذا يا سيد جيتس؟ لأن أمريكا الدولة الضرورة، يقول معاليه: والجميع سيعود إليها لحمايته، وحين تسأل الحماية من ماذا؟ لا يرد معاليه. أليس هذا ما كان يردده علينا الكتبة الكذبة العرب عشاق ضرر أمريكا وطلاب حمايتها؟ ألم يؤكد أحدهم ذات صباح كئيب استحالة استمرار الحياة بدون أمريكا، وأن الشمس لن تشرق إلا من صرتها؟ غير أنه بعد كل هذه التصديقات تظل هناك بعض الأسئلة. لماذا خرست كل هذه التسريبات المليونية عن ذكر شيء مهم عن دولة الكيان الصهيوني؟ أيعقل خلو كل الوثائق عن شيء يتعلق بممارساته في فلسطين أو علاقاته بأمه الرءوم أمريكا؟ كنت أتوقع شيئا عن علاقات الكيان ببعض الكتاب العرب الذين يمجدهم ويعتبرهم سفراء له في المنطقة، شيء يتجاوز ذكرهم بالاسم بعد أن عُرفت أسماؤهم، شيء من قبيل كم يدفع لهم. هل صحيح أن هناك وثائق سربت من مواقع أخرى غير ويكي، وهل صحيح أن بعض الوثائق نزعت من سياقاتها؟ ومن الذي قرر نشر هذه الوثيقة وحجب تلك؟ لماذا لا يوجد شيء عن المستقبل فكل ما سرب كان عما مضى، هل يؤكد هذا الانتقائية أم أن صاحب الموقع السيد أسانج استبقى الأهم لحماية نفسه؟ ثم ماذا عن السلطة الفلسطينية وتنسيقاتها الأمنية مع (إسرائيل) وغير الأمنية مع أمريكا، هل هناك علاقة بين تلميحات أبو مازن بحل سلطته الفلسطينية التي لا وجود حقيقي لها - وهو الحل الذي كرره عليه كل الكتاب الشرفاء العرب منذ زمن حتى لا يكون شاهد زور- وبين تشكيل لجان تحقيق للفساد المتفشي في معظم رجال سلطته وإثرائهم غير المشروع من أموال تبرع بها أصحابها لأهلنا في فلسطين فانتهت في جيوبهم.
لكن بعيداً عن كل هذا، بعيداً عن كل الزوابع التي قد تولدها هذه التسريبات، هل هناك عبر يمكن استخلاصها من هذا كله؟ نعم ما أكثر العبر وما أقل المعتبرين، أبسطها السقوط الأخلاقي للغرب وعلى رأسه أمريكا عند كل السذج من العرب المعتقدين بديمقراطية الغرب ومبادئه وحرية التعبير التي يتبجح بها ليل نهار، ها هم يحاربونها بكل قوة وبالانتربول تاركين جرائم حقيقية ضد الإنسانية دون أدنى لفتة. قبل فترة وجيزة كرمت مستشارة ألمانيا صاحب الرسوم المسيئة له وليس لنبينا المصطفى عليه السلام، بحجة حرية الرأي، واليوم تشارك ألمانيا في وأد ذات حرية بمساعيها لإخراس السيد أسانج، قبلها كرمت بريطانيا السيد رشدي صاحب الآيات الشيطانية واليوم تجرم أسانج وتسعى للقبض عليه، أمريكا رائدة حرية التعبير تريد شنق السيد ماننج صاحب التسريبات الأساسية لأنه أتاح المعلومات للغير كاشفاً وجه أمريكا القبيح، حتى موقع جوجل، رائد ثورة المعلومات، طرد موقع أسانج من صفحاته، هل في ذلك تناقض؟ إطلاقا هذه هي أخلاقيات الغرب وهذه هي قيمه، بالأحرى هذه هي سياسته منذ عهد ميكافيلي وأميره وحتى آخر أمير لديه. ولا أقول سوى laquo;سلاماraquo; للسادة أعداء نظرية المؤامرة.
قد لا يكون للأخلاق مكان في السياسة، وليس هذا ما أناقشه، إنما أسأل عن جرائم ترتكب يصل بعضها إلى درجة جرائم ضد الإنسانية، ويكشف عن مرتكبيها ثم لا يحاسبون. أسأل عن حالة الارتهان العربي العريض، بل المريض للراعي الأمريكي الذي يثبت كل يوم خبث مقاصده وخداع مبادئه وضلال دعاواه، وأخيرا أسأل ألم يئن للمخدوعين العرب بعظمة أمريكا أن يخجلوا من أنفسهم؟!.