نيويورك

يناقش الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز وولفعانغ ايشنغر مسألة تسريبات laquo;ويكيليكسraquo;، معتبرا ان عمليات التسريب قديمة قدم الدبلوماسية ذاتها، لكنه يجادل بأن الوضع هذه المرة يختلف، وانه لا يتعلق بالاساءة الى أشخاص أو مسؤولين حكوميين فحسب، بل له صلة بقضايا الحرب والسلم، وقد يكون - أحياناً - مسألة حياة أو موت.. لماذا؟
في عام 1996، وبعد اختتام محادثات دايتون للسلام حول البوسنة والهرسك، شعر وزير الخارجية الألماني ان ما نشر عن المفاوضات لم يعط بلاده حقها من حيث اسهامها في إنجاح المحادثات. فاتُخذ قرار بنشر 53 برقية رئيسية أرسلها الفريق الذي ترأسته خلال 21 يوما من المحادثات.
ومع ذلك، تعرضت الوثائق الى تحرير دقيق قبل نشرها، فمثلا، استبعدت الإشارات الى تصرفات زعماء الصرب والبوسنة، وكذا التذمرات المتكررة حول الخلافات بيننا وبين الوفد الأميركي برئاسة ريتشارد هولبروك.
ونتيجة لذلك، قدمنا للجمهور سجل المفاوضات العام ولم يشعر أي من المشاركين في المفاوضات بعدم الرضا، وأُنجزت المهمة.
وعودة الى تسونامي laquo;ويكيليكسraquo;، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: هو لماذا هذا الوضع مختلف عن نشر برقيات مفاوضات دايتون؟ ولماذا يخشى الدبلوماسيون من هذه التسريبات؟
أولاً، تسريب الوثائق السرية قديم قدم الدبلوماسية ذاتها. ويحدث ذلك في كل حين من خلال فروع الحكومة المتناحرة أو من قبل معارضة تسعى لاطاحة الحكومة، أو من قبل حكومة تهدف الى تخويف أو إضعاف الخصوم، أو من قبل شخص طامح أو حاقد أو لدوافع كثيرة أخرى.

أفضلية نسبية
وبعض التسريبات لا ضرر لها، والبعض قد يكون مميتاً، بل ان البعض قد يشعل نيران الحروب، لكن شيئاً واحدا مؤكداً وهو ان كل تسريب يلحق الضرر بالثقة بين الجهات أو الأشخاص وقد يدمرها، بشكل أو بآخر، والثقة هي العنصر، الأثمن في الدبلوماسية. ولهذا السبب، فإن استمرار laquo;ويكيليكسraquo; في تسريب مئات الآلاف من البرقيات الدبلوماسية الأميركية ينطوي على خطر كبير، ويهدد الدبلوماسية الدولية بأسرها.
ثانياً، معظم التسريبات تحدث في الدول الديموقراطية، وسيكون من المفاجئ لو احتوت التسريبات التالية برقيات مسربة من مسؤول صيني أو إيراني. فالأنظمة السلطوية قليلا ما تكون ضحية تسريبات داخلية. وربما يعود ذلك الى العقوبات الصارمة التي تواجه من تسوّ.ل له نفسه تسريب أي وثيقة، وربما أيضاً الى السرية الشديدة التي تحيط بها مثل هذه الأنظمة أعمالها في ظل غياب معارضة فاعلة أو إعلام مستقل.
وهكذا، فإن المجتمعات المفتوحة تتمتع بأفضلية نسبية على الدول الأقل ديموقراطية في ما يتعلق بالسعي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وأقل تضررا من أي تسريبات. وما من شك في ان الدبلوماسية الأميركية أصيبت بحالة من الشلل الخطير بفضل التسريبات. وربما كان الضرر أكبر لو لم تُظهر. laquo;نيويورك تايمز وغارديان ودير شبيغلraquo; وغيرها شعورا بالمسؤولية السياسية والأخلاقية والقيام ببعض التنقيحات لحماية الأفراد.

عالم شفاف
وماذا عن الحكومة الشفافة؟ وماذا عن حرية المواطن في الحصول على المعلومات؟ الحكومات في الدول الديموقراطية يجب تحميلها المسؤولية، لكن حق المواطن في ان يعرف ينطبق بصورة رئيسية على السياسات الحكومية. فالتسريبات حول سلوك الحكومات أو الشركات أو السلوك الإجرامي قد يكون عملا مشروعا في المجتمعات المعاصرة، لكن الحق في المعرفة يجب الاّ يشمل المعلومات التي تناقشها حكومات أجنبية بموجب أنظمة سرية المعلومات.
ومرة أخرى، انها مسألة ثقة، أي جوهر نسيج الدبلوماسية ذاته، وفي الوقت الذي تتلاشى فيه الثقة، يصعب أو يستحيل أحيانا إعادة بناؤها، ولهذا السبب توجد أنظمة لحماية الوثائق من النشر في الكثير من الدول.
ثالثاً، ان بناء وتقوية العلاقات الدولية أصبح أكثر صعوبة مع تسريبات laquo;ويكيليكسraquo;، وهذا لا يقتصر على الولايات المتحدة ودبلوماسيتها. فالمصادر ستنضب أمام الصحافيين وسيتم تقليص المعلومات التي سيحصل عليها السفراء والدبلوماسيون. والأسوأ من ذلك، ان المعلومات التي يتم تبادلها بين مختلف الهيئات الحكومية ستقلص، وقد تجد السفارات نفسها معزولة خشية من تسرب المعلومات التي يمكن ان تصلها، وقد يستبعد السفراء عن حضور بعض الاجتماعات المهمة.
وقد يستعين بعض رؤساء الدول ورؤساء الحكومات بمبعوثين خاصين بدلا من القنوات الدبلوماسية المعتادة. وقد لا يسمح بعضهم بتوزيع نسخ من محادثاتهم بأي شكل. وفي النهاية، هذه مفارقة laquo;ويكيليكسraquo;: انها ستؤدي الى انفتاح أقل والى المزيد من السرية بدلا من عالم شفاف من المعلومات كما كان يحلم القائمون على هذا الموقع.
وأخيراً، فإن إدارة الأزمات الدولية والحيلولة دون اندلاعها، هي من أنبل مهام الدبلوماسية في العصر الحديث. ولكن تسريب المعلومات على نطاق واسع من شأنه شل الدبلوماسية واضعاف مفاوضات السلام حاليا ومستقبلا، وتقويض جهود منع اندلاع الأزمات في العالم مثل المسألة النووية الإيرانية والشرق الأوسط وأفغانستان وباكستان. ولهذا، فإن التسريبات لم تقتصر اضرارها على بعض الشخصيات والمسؤولين الحكوميين، بل انها مسألة ذات صلة وثيقة بقضايا الحرب والسلم، وقد تكون أيضاً مسألة حياة أو موت في بعض الأحيان.