خالد القشطيني

بعد فراق طويل لسنين كثيرة، التقيت بياسمين، ابنتي من زوجتي الأولى الألمانية. جلسنا نستدعي الذكريات وأحداث السنين. سألتها: هل تتكلمين الآن اللغة الألمانية، لغة والدتك، بالإضافة إلى اللغة الانجليزية؟ قالت: laquo;نعم، وكثيرا ما أقرأ بعض كلاسيكيات الأدب الألماني، غوته وبريخت وشيلر وسواهمraquo;. وأضافت: laquo;أنا أحب ألمانيا، وكثيرا ما أذهب مع والدتي لزيارة أخوالي وأولاد خالتي. الحقيقة أنني لا أفوت مناسبة، عطلة أو إجازة كعطلة الكريسماس، إلا وقضيتها هناك. كثيرا ما أذهب إلى ميونيخ بصورة خاصة للمشاركة في مهرجان البيرة السنويraquo;.

استمعت لكلامها هذا ولاحظت كيف تألق وجهها بالبشر والاعتزاز وهي تتكلم عن ألمانيا، البلد الذي انحدرت منه والدتها أردموته، وكيف أينع ثغرها بالابتسام كلما جاء ذكر مقاهي ميونيخ ومراقص فرانكفورت ومسارح برلين. لم تسألني عن العراق، ولا عن عماتها في بغداد أو أولاد عمومتها، أو ماذا حصل لبيتنا القديم في سوق الجديد بالكرخ. كانت ياسمين فتاة مؤدبة، ولم تشأ أن تثير همومي، أو بالأحرى تسمع ما يثير أسفها هي.

لكن أدبها وتأدبها لم يخلصني من محنتي. لا أدري، ربما إذا لاحظت كيف تفجر الدمع في عيني، وتجهمت أسارير وجهي، وتأرجح كوب الشاي في يدي، ترتجف وتختض. طافت في ذاكرتي من دون قصد مني كلمات ميخائيل نعيمة:

laquo;أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دامٍ

لنبكي حظ موتاناraquo;.

ما الذي أقوله لابنتي هذه، نصف الألمانية ونصف العراقية؟ لا تنسي يا بنيتي نصفك الآخر، نصفك العراقي العربي الإسلامي، نصفك من ذلك البلد المهشم والأمة المهزومة، الشعب العاطل الجاهل وقادته الذين يثردون خبزهم في دمه! تعتزين وتستأنسين بكرنفال ميونيخ! تعالي للعراق وشاركي في المآتم ومجالس العزاء. ابكي والطمي، أسى ونحيبا على من ماتوا وعلى من بقوا ولم يموتوا.

ياسمين تقضي إجازاتها بين أخوالها في هانوفر وعلى سفوح جبال الألب، تتزلج وتتفرج. هل أجرؤ على دعوتها للعراق، وأنا ابن العراق وسليل مدينة المنصور، لا أجرؤ حتى على ركوب طائرة تمر في سماء العراق؟

تعالي يا حبيبتي. وشدي زلاجات الجليد، وتزحلقي فوق مزابل بغداد، جبال وسفوح ممتدة من الزبالة والقناني الفارغة والكتب المهملة والآثار البابلية المنهوبة وجماجم الموتى ورايات قادسية صدام. سفوح من جبال القمامة ومقابر الموتى، من شيخ معروف شرقا إلى منائر الكاظمية غربا.

سمعت كل ما قالته عن حياتها البهيجة الآمنة في الغرب، وتساءلت: ماذا لو أنني عدت بها لتنشأ في العراق؟ أسيكون مصيرها أفضل من مصير زينة، ابنة أخي موفق، التي خطفوها وقتلوها قتل الشاة، ربما لأنها لم تتحجب؟

أخي إن سمعت ابنة في الغرب تشدو وتحلم..

فلا تسمع ولا تنظر لمن في القيد تبكي وتلطم.