منح الصلح

جاءت زيارة رجب طيب أردوغان إلى لبنان وقبلها زيارة الرئيس الإيراني احمدي نجاد تعلنان تخوفهما، كل من موقعه من ارتدادات أي صراع مذهبي سني شيعي عليه، ففي ايران مسلمون سنة كثر كما أن في تركيا مسلمين شيعة غير قليلي العدد أيضاً فلا مصلحة للرئيس التركي ان يقال عنه في تركيا انه ضد الشيعة كما انه ليس من مصلحة الرئيس الايراني ان يقال عنه في ايران انه ضد السنة، فالإسلام واحد يجمع ولا يفرق، ولكل مواطن مذهبه داخل الاسلام وليس خارجه.

إذا كانت التوراة قد نجحت لمدة غير قصيرة في تصوير اليهودية كضحية، فإن العالم تقدم منذ تلك الأيام بشكل يدل على أن الشعوب والأديان أصبحت تعرف بعضها بعضاً، ولم يعد أحد لا من المسلمين ولا المسيحيين الراشدين يسمح لنفسه بأن يصنف اليهود الجدد أو الصهاينة بأنهم شعب الله المختار.

وإذا كانت طبيعة النظام اللبناني مثلاً تسمح بأن يرفع السياسي صوته بمذهبه من غير ان يكون لذلك تداعيات سلبية فإن ذلك لا ينطبق على ايران وتركيا، حيث من المفترض أن يكون الحديث عن الاسلام الجامع ولو ظل مفهوماً عند الناس أن تتعدد المذاهب.

ليس كل المسلمين في تركيا من السنة ولا كل المسلمين في ايران من الشيعة... وفي البلدين غالباً ما يكون الحديث عن الاسلام؛ يعني مذاهبه من دون تفريق، وما يحسن أن يبقى في الذهن ان حديث رجب طيب أردوغان عن الاسلام هو مخاطبة للسنة والشيعة معاً وكذلك حديث محمود أحمدي نجاد عن الاسلام هو حديث عن الاثنين وليس عن واحد او آخر. وشرف للبنان بكل طوائفه وليس لمسلميه فقط أن يكون التركي رجب طيب أردوغان والايراني محمود أحمدي نجاد قبله قد اختارا لبنان المسيحي المسلم والعلماني الى حد ما، لبث هذه الروحية التواصلية في المنطقة التي تكثر فيها دعوات التفريق والتمزيق، والمؤسف أن السابقين إليهما هذه المرة هما اثنان واحدهما ايراني والثاني تركي. ولولا فريضة الحج والمملكة العربية السعودية لكانت دينامية التفاعل والتواصل تسجل في بلداننا العربية تراجعاً مؤسفاً لا يشعر به الكثيرون. فأين نحن من تلك الأيام التي ظهرت فيها فكرة جامعة الدول العربية وكانت الرجالات من صنف الملك عبد العزيز وشكري القوتلي ورياض الصلح وعبد الرحمن عزام وأمثالهم ممن كانوا لا يقدمون انفسهم لشعوبهم إلا على انهم أصحاب تطلعات وحدوية أو تواصلية وهذا اضعف الايمان. حيث اصبحت التواصلية تبدو وكأنها ما ولدت وأخذت تنتشر إلا لعدم الرغبة أو عدم الجرأة على التلفظ بكلمات كالوحدة، سحبتها أيدٍ خفية من مجرد التداول بها!

هل يجرؤ لبنان اليوم على القول إن لبنان المستقل كان في بعض ما فعل ويفعل الآن أضيق رؤية وأقل معرفة بالمنطقة المحيطة به وكيفية تأمين مصالحه معها مما يجد هماً في عصر الانتداب وحتى قبله حينما كان يتنشق بملء رئتيه هواء المنطقة الواسعة التي هو منها.

فصاحب هذا المقال يذكر جيداً أنه كان طفلاً في محطة سكة حديد رياق في البقاع اللبناني عندما قيل له انه هنا لأن جده التركي والد أمه سيمر منها في طريقه من اسطنبول الى الحجاز، وهكذا حصل فقد توقف القطار في رياق ثم استأنف سيره في اتجاه الحجاز مروراً بفلسطين.

كان الزمن زمن الانتداب الفرنسي على لبنان واسم الخط كان سكة حديد اسطنبول الحجاز، وربما كانوا غير نادرين من العرب والأتراك لا يزالون يتذكرون بالخير تلك الأيام التي كانت فيها أوصال المنطقة الاسلامية لم تنقطع بعد مواصلاتها على الأقل ولو أن حكم الانتداب الفرنسي جاء شاملاً للبنان وسوريا معا.

المسنون وحدهم من العرب والأتراك يتذكرون خط سكة حديد اسطنبول الحجاز ومساره ولكن شخص رئيس الحكومة التركي أردوغان كان وظل حتى هذه الأيام متحسساً بنزعة المنطقة العربية التركية الى التواصل السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

التواصل هي الكلمة المهذبة والمتواضعة التي تذر بقرنها اليوم مع رئيس الحكومة التركي بينما الوحدة كلمة تكاد تكون ممنوعة او منسية لا بين المسلمين غير العرب فقط، بل بين العرب أنفسهم ولولا وجود الحج والسعودية لما كان في كل ما يجري في المنطقة ما يذكر بأنها واحدة، او كانت واحدة.

قد يكون اردوغان يمثل بتوجهاته أكثرية بين المسلمين أو لا يمثل ولكن بالتأكيد انه ظل يمثل روحاً وحدوية في المنطقة لم يقو بعد أحد على نزعها من نفوس الأكثرية من شعوب المنطقة وحتى بعض قياداتها.

إذ لا شك في انه منذ زرع اسرائيل في المنطقة على يد الولايات المتحدة وأعوانها والحنين ينمو ويتصاعد في نفوس الكثرة من العرب في اتجاه الطروحات الوحدوية او التواصلية على الاقل. ومن يدري فقد يكون زرع اسرائيل في المنطقة أوجد صحوة لم تعلن عن نفسها داخل نفوس العرب والمسلمين. فمنذ أن وقف رجب طيب أردوغان وقفته الشهيرة في وجه الرئيس الاسرائيلي شيمون بيريز والنجومية تحيط به وباسمه لا في تركيا ولا في البلاد العربية فقط، بل عند كل المسلمين وغالبية سكان آسيا وإفريقيا على الأقل.

ففي تركيا وخارج تركيا تتوسع الرمزية المثالية لشخص أردوغان بما يشكل فضيحة للسياسة الغربية واضرارا بمصالحها عند كل من هو غير أوروبي أو أميركي. منذ تلك الوقفة تأكد لدى كل الشرق وقسم كبير من الغرب أن موجة الشفقة على اسرائيل اتجهت للعروبة. فالمزروع زرعاً بالقوة في أرض فلسطين هو اسرائيل لا الفلسطينيون ولا العرب.

فإذا كانت التوراة قد نجحت لمدة غير قصيرة في تصوير اليهودية كضحية فإن العالم تقدم منذ تلك الأيام بشكل يدل على أن الشعوب والأديان أصبحت تعرف بعضها بعضاً، ولم يعد أحد لا من المسلمين ولا المسيحيين الراشدين يسمح لنفسه بأن يصنف اليهود الجدد أو الصهاينة بأنهم شعب الله المختار.

قبل زيارة أردوغان الى لبنان كانت زيارة الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد تحمل الرسالة نفسها الى لبنان الوطن والشعب فهو اختار بنت جبيل البلدة اللبنانية الأقرب الى الحدود الفلسطينية اللبنانية ليؤكد للبنانيين والعرب أن ايران تنظر الى اسرائيل على انها دخيلة على المنطقة وأنها كانت وستظل موضع رفض لا من قبل العرب وحدهم بل من كل المسلمين أيضاً وكل أنصار الحق حيثما كانوا وإلى أي دين أو عقيدة انتموا.

ليست تركيا دولة عادية من دول الشرق، بل هي دولة مميزة من دوله، فإذا كان اللبنانيون يفتخرون بأن تاريخهم قديم قدم الفينيقيين والمصريون بأنهم ورثة الفراعنة، فإن تركيا تفخر بأنها حكمت جزءا من العالم في العصور الحديثة، وليس على الدارس أن يعود مئات السنين الى وراء ليلتقي بالمجد التركي، فالعثمانية التي حكمت في آسيا وأوروبا كان مصطفى كمال مؤسس الجمهورية التركية الحالية من القواد العسكريين فيها.

ولعل أهم ما تفخر به تركيا أنها موجودة في حاضر الكثير من الدول القائمة وليس في ماضي الدول السحيق فقط، فعندما جاء طيب أردوغان الى لبنان كان موضع اعتزازه الأول ان ساحة البرج التي هي قلب العاصمة بيروت ساحة عثمانية فيها السرايا نفسها التي كان يجلس فيها الوالي التركي وان العدلية التي كان يجلس فيها القضاة الأتراك هي نفسها التي سيجلس فيها وهكذا فإن ما كان مركزا لممارسة السلطة في العصر العثماني هو نفس ما ظل واستمر في زمن الانتداب الفرنسي ثم الحكم الوطني اللبناني.

لم يفعل الانتداب الفرنسي ولا فعل الحكم الوطني اللبناني إلا أن استخدم ما كان الاتراك قد سبقوه واستخدموه فالساحات والأبنية والحدائق هي نفسها التي بناها الأتراك وأداروا منها شؤون البلاد.

ولعل السرور الحقيقي الذي شعر به رجب طيب أردوغان في زيارته الاخيرة هو أن المجد التركي وحده الذي ظل يخدم الدولة اللبنانية حتى الان وتصدر منه وفيه القرارات الأساسية بينما امجاد كل الآخرين من غير أهل البلاد قد ذهبت، ليبقى ما بناه الاتراك من سرايات ودور الحكم تحت تصرف اللبنانيين ليمارسوا حكم بلادهم بالشكل الذي يريدون. وكل ما حدث أن اتراكاً او موظفين لبنانيين في أيامهم قد ذهبوا وأتى اللبنانيون الى الأمكنة نفسها ليمارسوا فيها حكمهم لبلدانهم بالشكل الذي يشاؤون.