سعيد الشهابي

برغم الهدوء الظاهر على السطح، ثمة أزمات تواجه الحكم في البحرين وهو يستعد للاحتفال بـ 'العيد الوطني' التاسع والاربعين، وهو اليوم الذي استلم فيه الامير السابق، الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، مقاليد الحكم بعد وفاة والده في 16 كانون الاول/ديسمبر 1961.
ومن ذلك اربع قضايا بارزة: اولها استمرار التوتر الامني والسياسي في ظل الاعتقالات التي طالت حتى الآن أكثر من 400 شخص، نشرت اسماء أغلبهم مؤخرا في المواقع الالكترونية.
ثانيها: السجال الذي طرحته الجمعيات السياسية وقوى المعارضة في السنوات الاخيرة حول مفهوم 'العيد الوطني' وما اذا كان ينطبق على اليوم المعمول به حاليا.
ثالثها: تزامن المناسبة هذا العام بمناسبة دينية يحتفل بها غالبية الشعب البحراني، وما أثاره ذلك من سجال بين ولاءات المواطنين بين الدين والحكم.
رابعها: تداعيات الكشف عن الوثائق الدبلوماسية الامريكية عبر موقع 'ويكيليكس' وبروز البحرين كواحدة من البلدان الاكثر تضررا من ذلك، خصوصا لانعكاس ذلك على العلاقات مع ايران. ولكن برغم هذه القضايا فقد اصبح نظام الحكم أكثر اصرارا على مواصلة سياساته التي انتهجها في السنوات العشر الاخيرة، اي منذ اعتلاء الحاكم الحالي سدة الحكم بعد وفاة والده في آذار/مارس 1999. ومع الاعتراف بان البحرين ليست البلد الخليجي الوحيد الذي يعاني من اضطراب سياسي مزمن، فانها الاكثر اتصالا بحالة الاضطراب السياسي الذي تواصل عبر العقود، حتى تحول الى ظاهرة ملازمة للوضع. والواضح ان صورة البحرين خارج حدودها تغيرت كثيرا في الاسابيع الاخيرة في ضوء البيانات والتقارير الحقوقية التي صدرت عن جهات حقوقية دولية تتمتع بشيء من الاستقلال. وربما الجانب الخطير في لعبة الشد والجذب هذه، تحولها الى حالة استقطاب غير مسبوقة في العلاقات بين مكونات المجتمع في ما بينها من جانب، وبين هذه المكونات ونظام الحكم من جانب آخر. وقد اصبح واضحا غياب مشروع مؤسس على طي ملفات السابق وما تقتضيه من مصارحة تسبق المصالحة، والسعي الرسمي المتواصل لتجاهل مسلتزمات ذلك وغياب اطار عصري محكوم بأطر تحظى بتوافق الاطياف السياسية الفاعلة.
القضية الاولى يمكن استيعابها باستعادة جانب مما جرى الاسبوع الماضي وبالتحديد الجلسة الرابعة لمحاكمة المعارضين السياسيين الذين اعتقلوا الصيف الماضي والذين اصبحت قضيتهم تأخذ ابعادا تزداد تشعبا. كان الوضع في قاعة المحكمة عاديا، فقد حضر 'المتهمون' ومعهم محاموهم في الوقت المحدد. صحيح ان هناك استنفارا امنيا واسعا في المنطقة الدبلوماسية واحتجاجا من الموظفين الذين عرقل الحضور الامني المكثف حركتهم فتأخروا في الوصول الى مكاتبهم، ولكن العاصمة البحرينية كانت تنتظر بهدوء ما سيجري في الجلسة الرابعة من محاكمة خمسة وعشرين شخصا من البحرانيين المتهمين بالضلوع في 'مؤامرة انقلابية' و 'تشكيل شبكة هدفها بث الاخبار المغرضة والاتصال بالجهات الخارجية بهدف تشويه سمعة البحرين في الخارج من اجل زعزعة الامن والاستقرار، والتحريض ضد النظام'. فبعد ثلاث جلسات سابقة، كان هناك توقع النظام ان يبدأ المحامون الذين تطوعوا للدفاع عن السجناء، مرافعاتهم ورد الاتهامات التي وجهها الادعاء العام لهم. لكن فاجأ المحامون الـخمسة والعشرون المحكمة بالاصرار على مطالبتهم بالتحقيق في مزاعم التعذيب الذي تعرض له المتهمون، واعادة التحقيق تحت اشراف القضاء وبحضور المحامين انفسهم. لقد مضى على اعتقال هؤلاء اربعة شهور شهدت توترا متواصلا وصدرت خلالها عشرات البيانات الحقوقية والسياسية حول ما يجري في سجون البحرين، البلد الخليجي الصغير الذي يبدو ان قدره البقاء في حالة توتر سياسية متوصلة منذ العام 1922.
القاضي رفض مطالب المحامين الذين كانوا قد هددوا بالانسحاب وعدم الترافع ما لم تتم الاستجابة لتلك المطالب. فما كان منهم الا ان اعلنوا الخطوة التي يتوقع ان تكون لها انعكاسات واسعة في الاسابيع والشهور المقبلة. وفي تصريحات لاحقة ومقابلات صحافية قال هؤلاء انهم قرروا الانسحاب بعد ان اتضح لهم عدم جدوى الترافع في قضايا تأسست على 'اعترافات نزعت تحت التعذيب'. هذا الانسحاب خطوة غير مسبوقة، سوف تزيد الوضع صعوبة للحكومة، وتضع الجهاز القضائي برمته امام المحك. فقد تعين الحكومة فريقا آخر من المحامين الموالين لها، ولكن المعتقلين أعربوا عن تمسكهم بمحاميهم. فالسلطات تخشى من السماح بتحقيق مستقل في مزاعم التعذيب خصوصا مع افادات المعتقلين مؤكدين تعرضهم لاشكال عديدة من التعذيب الجسدي والنفسي. كما ان حضور حقوقيين دوليين جلسات المحاكمة بجانب ممثلي السفارات الامريكية والبريطانية والسويدية والفرنسية عامل آخر يقلص الخيارات المتاحة امام الحكومة. وليس مستحيلا ان تصل الحكومة الى نتيجة عاقلة بان الاسراع بغلق ملف السجناء يوفر الخيار الأقل ضررا، برغم تبعاته على السلطات، وما تؤدي اليه من تساؤلات حول فاعلية اساليبها وشرعية الاجراءات التي تتخذ ضد المواطنين عندما يمارسون شيئا من الحرية. ويحظى هذا التوقع بشيء من المصداقية خصوصا في ضوء الاعلان عن زيارة مزمعة للمفوضة السامية لحقوق الانسان، السيدة نافي بيلاي، الى البحرين في شهر شباط/ فبراير المقبل، للاجتماع بنشطاء حقوق الانسان والاطلاع على تطورات اوضاع حقوق الانسان بعد الاعتقالات الاخيرة والادعاءات الكثيرة حول التعذيب.
القضية الثانية تتمحور حول العيد الوطني نفسه، من حيث معناه وظرفه التاريخي والسياسي. فقد طرحت المعارضة منذ سنوات طلبا باعتبار يوم اكتمال انسحاب القوات البريطانية من البحرين في اب/اغسطس 1971 عيدا وطنيا يحتفى به لانه ينطوي على معنى التحرر والاستقلال. بينما ما اصطلح على تسميته 'عيد الجلوس' سابقا لا يخلق شعورا وطنيا مشتركا لانه لا يرتبط بدور شعبي. لقد كان النضال في الستينات ضد الاستعمار البريطاني والمطالبة بخروجه عوامل اثرت على نفسيات المناضلين، ودفعتهم للانخراط في العمل السياسي الموجه ضده. كان مشهد طلاب المدارس وعمال الشركات وهم يهتفون ضد الوجود الاجنبي عاملا فاعلا لتكريس الشعور بالانتماء الى امة واحدة تناضل ضد الاحتلال والاستعمار، وتطالب بغد افضل لشعوبها. ففي مناسبة الانسحاب البريطاني رمزية خاصة لها العديد من المزايا: اولها انها تعتبر تتويجا لنضال اجيال متعاقبة ضد الاحتلال الاجنبي، اسوة ببقية الدول العربية والاسلامية التي وقعت تحت الاحتلال، ثانيها انها تعمق الايمان العام بان نضالات الشعوب تحقق النتائج المرجوة، وان انظمة الاحتلال او القمع او الاستبداد لا تدوم.
ثالثها ان خروج الاستعمار من المنطقة يؤكد واقعية مقولة 'حق تقرير المصير' وبالتالي فما تزال الشعوب قادرة على تحديد مستقبلها وشكل الحكم الذي ترتئيه. هذه الدروس المستوحاة من ذكرى التحرر من الاستعمار تبدو كثيرة وثقيلة في نظر البعض، ولذلك يستمر السعي لمصادرتها من النفوس والعقول وادخال الرعب في قلوب من يسعى للتغيير الايجابي. يضاف الى السياق التاريخي للعيد الوطني بعد سياسي آخر وهو اصرار المعارضة البحرينية على الاحتفاء بما تسميه 'عيد الشهداء' في 17 ديسمبر من كل عام وهو اليوم الذي سقط فيه اول ضحيتين في انتفاضة التسعينات التي انطلقت في 1994. وقد تحول ذلك اليوم الى مناسبة للتعبئة السياسية والحقوقية واقيمت الندوات في الداخل والخارج ونظمت المسيرات. وفيها سقط ضحية اخرى في 2007، الامر الذي كرس الاستقطاب بمستوى اكبر. ويندر بروز ظاهرة كهذه، بين حكومة تحتفل بيوم خاص بحكامها، ومعارضة تتحرك باسم الشعب لاحياء مناسبة اخرى لاحياء ذكرى سقوط معارضي نظام الحكم. وقد سعت الحكومة لمنع التظاهر ذي الطابع الحزين في المناسبة التي تسعى من خلالها لاقناع الشركاء الاقتصاديين والسياسيين بجدوى التعامل مع حكومة البحرين.
القضية الثالثة هذه المرة تتمثل بتزامن اليوم الرسمي لـ 'العيد الوطني' مع يوم العاشوراء الذي يحتفي بها قطاع كبير من المسلمين يمثلون القطاع الاوسع من المعارضة البحرانية. فكيف يمكن تنظيم احتفال بهيج في يوم حزين بغض النظر عن مدى شرعية ما يمارسه المواطنون من الناحية الدينية. هذا التضاد في المواقف من شأنه ان ينعكس سلبا على العلاقات بين الاطراف المعنية، ويساهم في توتير الاجواء، ويكرس الاحتقان الامني. وهذا التضارب في المناسبات يعني ضعف الثقة المتبادلة بين الاطراف، والاختلاف في منظومة القيم والقناعات ومشاعر الانتماء. وهنا لا تبقى القضية اسيرة لمقولات الانتماء للوطن، بقدر ما هي تعبير عن الشد والجذب السياسيين، وهو أمر لا يزول الا بتحقيق المصالحة الوطنية التي لا يمكن تحقيقها الا بعد المصالحة، وهو امر لم يتحقق برغم مرور اكثر من عشرة اعوام على تغير شخص الحاكم. وفي حالة التفاهم والوئام فان تزامن المناسبات الدينية والوطنية ليست قضية خطيرة، بل يمكن التفاهم بشأنها، ولكن في حالة الاحتقان السياسي يتحول التزامن الى عود ثقاب يشعل نيران الخلاف والاختلاف. فالجميع يتخفى وراء المناسبة التي تعنيه، ويوجه ذلك للافصاح عن مشاعره السياسية من اجل 'اثبات الذات' تارة و'تصفية الحسابات' من جهة اخرى و'التعبئة السياسية' ثالثة. وتجدر الاشارة الى ان حكومة البحرين أولت في السنوات الاخيرة اهتماما خاصا بالعلاقات العامة ضمن سياساتها لاحتواء الآثار المدمرة لاستمرار التوتر الامني والاتهامات المتواصلة بانتهاكات حقوق الانسان. ولكي تحقق تقدما في العلاقات العامة وقعت اتفاقات مع شركات عديدة خصوصا في بريطانيا وامريكا من اجل الترويج لصورة اكثر تحضرا. كما سعت لاحتواء العديد من الاعلاميين والحقوقيين في مؤسسات دولية امريكية وبريطانية للهدف نفسه.
القضية الرابعة فرضت نفسها في الاسابيع الاخيرة بعد تسريب الوثائق الامريكية عبر موقع 'ويكيليكس'. والغريب في الامر ان تحتل البحرين موقعا متقدما فيها، حتى ان صاحب الموقع، جوليان أسانج هدد قبيل اعتقاله في لندن في مقابلة بالإيميل أجرتها قناة ABC NEWS الاخبارية الامريكية بـأن المراسلات الدبلوماسية الأمريكية التي سينشرها موقعه في الفترة القادمة ستستهدف ما أسماها 'القيادات الكذابة المجرمة الفاسدة من البحرين للبرازيل' وأضاف ' نحن لا زلنا بعيدين بمقدار 1 من ألف فقط عن بداية المدخل ، وانظر الى ما كشف عنه حتى الآن، سيكون هناك المزيد'. هذا التهديد بكشف المزيد سوف يضيف الى قلق الحكومة البحرينية خصوصا بعد ما كشفه سابقا حول ما قاله الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 2009 خلال استقباله الجنرال الأمريكي ديفيد بترايوس أنه يجب وقف البرنامج النووي الإيراني، مضيفا ان 'خطر تركه يفوق خطر وقفه'. وقد تم الكشف عن هذه الوثيقة بالتزامن مع الوثيقة الاخرى التي دعا فيها الملك السعودي، عبد الله بن عبد العزيز الى 'قطع رأس الافعى' وعدم الاكتفاء بقطع ذيلها، في اشارة الى ضرورة انهاء المشروع النووي الايراني. هذا في الوقت الذي اعلنت حكومة البحرين مرارا دعمها لحق ايران في امتلاك مشروع نووي سلمي. وبرغم الموقف الايراني الرسمي الذي سعى للتقليل من شأن هذه التصريحات، بدعوى ان الهدف من بثها احداث الفرقة بين المسلمين، فمن المؤكد ان طهران غاضبة من هذه المواقف التي تظهر في العلن سياسات مختلفة عن المواقف التي يعبر عنها هؤلاء القادة في لقاءاتهم الخاصة مع المسؤولين الامريكيين. في هذا الفضاء السياسي المضطرب يجدر بنظام الحكم في البحرين اعادة النظر في اساليب تعاطيهم مع المعارضين، وعدم استعجال قمعهم بالطريقة التي تقررها اجهزة الامن، فهذه الاساليب تضاعف الازمات ولا تحلها، وتضعف مصداقية الحكم خصوصا عندما ينتهك حقوق الانسان بشكل فاضح يضطره لطرح تبريرات غير مقنعة، كما حدث هذه المرة مع رموز المعارضة ونشطاء حقوق الانسان واصحاب المدونات والمواقع الالكترونية. وبدلا من محاولات تطويع شعب كامل لرغبات نخبة سياسية صغيرة، يجدر بالحاكمين، ولو مرة واحدة، الاستماع لمطالب المواطنين في الشراكة السياسية والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الانسان، على ان يكون ذلك محكوما بدستور توافقي يكتبه المواطنون، كما فعلوا قبل اربعين عاما. فالبديل لذلك استمرار الاضطراب الامني والسياسي الذي سوف يؤدي، عاجلا ام آجلا، لقطيعة كاملة وتغيير جوهري في منظومة الحكم.