وائل مرزا
من الظلم بمكان اعتبار إنجازات التجربة التركية الراهنة على أنها تتعلّق حصرًا بتركيا نفسها، أو بالإسلام والمسلمين.
منذ قرابة خمس سنوات، وحين كان الرئيس التركي عبدالله غول وزيرًَا للخارجية، أطلق تصريحًا من الواضح أن الكثيرين اعتقدوا أنه من تلك الشعارات التي اعتاد عليها الناس، خاصةً في بلاد العرب. قال الرجل يومها: laquo;نحن لا نُصلح بلادنا فقط من أجل الوفاء بالمعايير الأوروبية. لدينا جدول أعمالنا الخاص ومتطلباتنا التي تتجاوز ما يريده الأوروبيون منا. إنها ثورةٌ صامتة تلك التي تجري هذه الأيام في تركياraquo;.. لم يكن التصريح غريبًا على كاتب هذه الكلمات، من باب المتابعة الكثيفة للتجربة التركية على مدى عشرين عامًا. وتأكدت أهمية تلك المتابعة خاصةً بعد لقاءٍ بمجموعة من الأكاديميين الأتراك منتصف تسعينيات القرن الميلادي الماضي في المؤتمر السنوي الحافل لجمعية دراسات الشرق الأوسط في أمريكا. لم يكن هؤلاء مجرد أكاديميين، وإنما كان بعضهم يعمل أيضًا في مجال السياسة، بعد أن تمّ انتخابهم كرؤساء بلديات في بعض المدن التركية قبل تلك الفترة.
ومن خلال الحوار المفصل معهم، كان من السهل إدراك حجم النقلة الفكرية التي كانت قد بدأت تتبلور منذ ذلك الوقت. وظهر واضحًا جدًّا أن تلك النقلة تعتمد على فهمٍ مختلفٍ جذريًّا للإسلام كدين، ولدوره في الحياة، طوّره الأتراك بشكل عملي ومنهجي، ويختلف كليًّا عن كل فهمٍ سائد عن الموضوع في العالمين العربي والإسلامي. سوى بعض الإضاءات المتعلّقة بالموضوع في ماليزيا أو غيرها، والتي لم تنمُ بشكلٍ مؤسسي شامل، كما بات عليه الحال في تركيا. وبناءً على ذلك الفهم الجديد، بنى الأتراك -ولايزالون يبنون- منظومات من الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في غاية الابتكار والإبداع، تنبثق من قراءةٍ متوازنة وكليةٍ للتجربة البشرية ومنطلقاتها النظرية، سواء كانت إسلامية أو غربية أو شرقية. الأكثر من هذا أنهم يبتكرون هياكل عملية ومؤسسات إدارية وسياسية واقتصادية تتعامل مع حاجات الإنسان انطلاقًا من تلك القراءة، وبحيويةٍ ومرونةٍ منقطعة النظير.
والحقيقة أن متابعة ما يجري في تركيا وتحليله بدرجةٍ من الشمول والموضوعية في الأعوام الثمانية الماضية تحديدًا، ومنذ استلام حزب العدالة والتنمية للحكم، يوحي بأن ما يجري في هذا البلد هو ثورةٌ صامتةٌ، لن يتجاوز تأثيرها حدودهُ إلى البلدان المجاورة، ولا إلى العالم العربي والإسلامي فقط، وإنما قد يكون بداية رؤيةٍ عالميةٍ جديدةٍ في كثيرٍ من المجالات والقضايا.
تحاول التجربة التركية أول ما تحاول إلغاء كل ما يمكن إلغاؤهُ منطقيًّا من الثنائيات التي تسيطر على عقل الإنسان في الغرب والشرق على حدٍ سواء.، فالعلم لا يتناقض مع الإيمان. والسياسة لا تتضارب مع الدّين بفهمه الحضاري. وهذان مبدآن شائعان في الغرب، ربما يكونان أقوى من كل قانون. في حين أن التجربة التركية تُفرز معطياتٍ مختلفة جدًّا فيما يتعلق بهما.
والرموز لا تُخيف سوى القاعدين الكسالى كما هو الحال مع الكثيرين في الشرق، أو المصابين بالذعر الحضاري، كما هو الحال مثلاً مع المشرعين الفرنسيين الخائفين من قطعة قماش تضعها المرأة على رأسها. بينما تنتشر صور أتاتورك، مؤسس العلمانية التركية في كل مكان في البلاد، وتوجد حتى في مقرات حزب العدالة والتنمية بنفسه، دون أن يُوتّر هذا الحزب الحاكم الذي يوصف بأنه إسلامي. وحين طالبت المحكمة بهدم مدرسة تحفيظ القرآن التي درس فيها رئيس الوزراء أردوغان في طفولته قامت قائمة التقليديين الذين يربطون استمرار الهوية باستمرار الرموز، وليس باستمرار عملية تحقيق القيم والمبادىء الأصيلة للهوية. في حين أمر أردوغان نفسُهُ بهدم المبنى لأن الطلب ينسجم مع قانونٍ عام بهدم المباني المتداعية في المناطق العشوائية.
أمّا التمسك بالهوية بالنسبة لأهل التجربة التركية فإنه لا يعني الحياة في التاريخ بهمومه وأولوياته، ولاتبنّي وسائله وأساليبه، ولا الوقوف عند رصيد أهله من العلماء والفقهاء. ومع أنهم يركزون بشدّة على المعاصرة والحداثة والحياة في الزمن الراهن بكل حيويته وطلاقته. لكن هذا لا يعني لديهم الانسلاخ عن القيم الأصيلة للهوية الثقافية، ولا تغيير أهدافها الإنسانية النبيلة، ولا إنكار إيجابياتها وعطائها التاريخي في أي مجال. وحين تزور معهد العلوم والفنون في اسطنبول، والذي أسسه وزير الخارجية أحمد داود أوغلو، تسمع من مسؤوله الدكتور مصطفى أوزال العجب العجاب عن الطبيعة الفريدة للمنهج. وتسمع منه تحديدًا المبادىء الرئيسة الثلاثة للمعهد ومراكزه التخصصية، وهي مبادىء تحكم بشكل صارم أي عملٍ وإنتاج ونشاطٍ فيها، وهي: امتلاك رؤية عالمية والانطلاق منها. اعتماد المدرسة التكاملية البَينية في العلوم Interdisciplinary لفهم جميع الظواهر والبحث عن طرق التعامل معها. الحياد وعدم الدخول أبدًا في عالمي السياسة والاقتصاد تحديدًا، وإنما العمل على إثراء المجالين من جانب، وإثراء إنتاج المعهد من خلال دراستهما المستمرة من جانب آخر.
تعمل التجربة التركية أيضًا على الجمع بين ما يظنه الكثيرون متناقضات على صعيد النظرية والواقع كلاهما. فالانفتاح على جميع شرائح المجتمع التركي ليس تمييعًا للانتماء الديني والعقدي. بمعنى أن الانتماء الوطني لا يجب أن يتضارب بالضرورة مع أي انتماءٍ آخر. لهذا، ليس غريبًا أن يكون في أعضاء حزب العدالة، ومسؤوليه مَن يقول إنه مسلم ملتزم، ومَن يقول أنه علماني، ومَن يقول إنه قومي، بشرط أن يكونوا جميعًا ملتزمين بمبادىء وبرنامج الحزب التي تتمحور حول تنمية الإنسان والمجتمع، وتحقيق مبادىء العدل والحرية، وصيانة الوحدة الوطنية، وحفظ المصلحة العليا للبلاد. ترى مصداق هذا بأمّ عينك في مقرات الحزب في أنقرة واسطنبول مثلاً، حيث تحاور بالمصادفة مَن يمثلون جميع تلك التوجهات. وترى المحجبة وغير المحجبة، والحليق والملتحي، والمرأة والرجل، وأشخاصًا تعود أصولهم لجميع المناطق التركية، وغير هذا من التنويعات. لهذا، ليس غريبًا أن يثبت بالأرقام أن شرائح منهم جميعًا صوتت للحزب سواء في الانتخابات أو في استفتاء تعديل بعض مواد الدستور. لم يكن غريبًا أيضًا أن يفتتح مؤتمر التعاون العربي التركي الذي انعقد في أنقرة الأسبوع الماضي وزير الداخلية بشير أتالاي. والمفارقة هنا أن وزير الداخلية المذكور أستاذ في علم الاجتماع، وهو مؤسس جامعة كيريكالي في وسط الأناضول وأول مدير لها! فالمنصب هنا مسؤولية، ومالكه يجب أن يكون أهلاً لتحمّلها. المفارقة الثانية أن مدير معهد الدراسات الإستراتيجية، الشريك التركي في تنظيم المؤتمر، الصديق الدكتور ياسين أقطاي، يبلغ من العمر أقل من 40 عامًا. والحقيقة أن إعطاء الفرصة للشباب والثقة بقدراتهم والاهتمام المستمر بتكوين الكوادر القيادية الرديفة في كل مكان يُعتبر من مظاهر النقلة التي نتحدث عنها، ومن مقومات استمرارها وتطورها المتسارع أيضًا. وكل ماسبق ذكره يشكل جزءًا من بحر الظواهر التي تؤكد وجود تلك النقلة، ولابد أن يستمر الحديث فيها.
منذ فترة، أنشأ المعهد المذكور أعلاه جامعة اسمها Istanbul ehir University، وعندما تنظر إلى فقرة (رؤية الجامعة) تقرأ ما يلي: laquo;من الممكن إنشاء نظام عالمي حيث تكون العلاقة بين الفرد والمجتمع والعلاقة بين المجتمع والطبيعة في غاية التناغم والانسجام المتبادل. يهدف معهد العلوم والفنون [من إنشاء الجامعة] إلى توفير أجواء أكاديمية وثقافية حيث يمكن للمرتكزات المعرفية والروحية والفنية لمثل هذا النظام أن تُبحث بحريةraquo;. ألا يمكن أن تكون هذه الرؤية بذرة ثورة صامتة عالمية؟
التعليقات