خيرالله خيرالله

لم يفاجئ السيد مسعود بارزاني احدا عندما تحدث امام الذين حضروا جلسة الافتتاح لمؤتمر الحزب الوطني الديموقراطي الكردستاني عن quot;حق تقرير المصيرquot; لاكراد العراق. فرئيس اقليم كردستان صادق مع نفسه إلى ابعد حدود. ولذلك تطرق إلى موضوع في غاية الحساسية امام كبار القياديين العراقيين بمن فيهم رئيس الجمهورية جلال طالباني ورئيس الوزراء نوري المالكي وزعيم اللائحة الفائزة فعلا في الانتخابات، اي quot;القائمة العراقيةquot; برئاسة الدكتور اياد علاّوي وآخرين.
ما الذي يمكن ان يعنيه كلام مسعود بارزاني؟ هل يعني ان الاكراد سيسعون إلى قيام دولة مستقلة خاصة بهم ولم يعد ينقصهم سوى ضمّ كركوك لاقليمهم؟ ثمة من يستطيع الذهاب إلى مثل هذه التفسيرات والاجتهادات، خصوصا ان الشعب الكردي امتلك دائما مثل هذا النوع من الطموحات، لكن الظروف لم تساعده في الحصول على اكثر من حكم ذاتي، جاء تطبيقه ناقصا، بل كان صوريا في واقع الحال. لا شك ان الاوضاع الاقليمية لم تساعد الاكراد يوما في التفكير في اقامة دولة مستقلة فعلا.
سارع كثيرون إلى الكلام عن رغبة الاكراد في الانفصال عن العراق مؤكدين ان ذلك يشكل خطرا على وحدة البلد. لكنّ الاكراد يعرفون، إلى اشعار آخر، ان خيارهم ليس الاستقلال، اقلّه في الظروف الراهنة، على الرغم من الظلم التاريخي اللاحق بهم. لكن عليهم ان يعدوا أنفسهم لمرحلة جديدة تسمح لهم بتأمين افضل الظروف المعيشية لابناء المنطقة الكردية. ما يمكن ان يدفعهم إلى التفكير في خياراتهم المستقبلية الوضع السائد في العراق حيث فشلت الحكومات التي تولت ادارة البلد منذ سقوط النظام السابق في تأمين الحد الادنى من الاستقرار. لم تقم تلك الحكومات، خصوصا الحكومة الحالية، التي يفترض ان تكون مجرد حكومة تصريف اعمال منذ الانتخابات الاخيرة التي جرت قبل تسعة اشهر، بأي خطوة تؤكد ان هناك اهتماما بكل العراق وكل العراقيين. على العكس من ذلك، لم نشهد في السنوات الاخيرة سوى مزيد من التدهور الامني رافقته محاولة واضحة لتغيير طبيعة المجتمع العراقي تحت تأثير النفوذ الايراني الذي يمارس على كل المستويات. هل طبيعي ان تحصل مجزرة كنيسة سيدة النجاة في بغداد، في وقت بات هناك عشرات الآلاف من رجال الامن، يبدو ان آخر همّ عندهم حماية المواطنين العراقيين من ارهاب quot;القاعدةquot; وما شابهها من ميليشيات مذهبية؟ المؤسف ان هذه الميليشيات لا تقلّ خطورة عن quot;القاعدةquot; وهي تابعة للاحزاب المتسلطة التي ترفض قبول نتائج الانتخابات الاخيرة والتصرف انطلاقا من الارقام التي سجلت فيها ومن مواد الدستور.
بكلام اوضح، وجدت هذه الميليشيات التي تسللت إلى الادارات الرسمية وحولتها إلى خلايا حزبية، ان في استطاعتها منع تطبيق الدستور والقانون والاستعاضة عن ذلك باتفاق اميركي- ايراني يمنع وصول اياد علاّوي إلى موقع رئيس الوزراء استنادا إلى اللعبة الديموقراطية التي يفترض ان يحترمها الجميع، اكانوا في السلطة ام خارجها...
في المقابل، عمل الاكراد على لملمة اوضاعهم وتحويل منطقتهم ملجأ لكل المضطهدين في العراق، خصوصا المسيحيين. الاهم من ذلك كله انهم استوعبوا ان لا خيار امامهم سوى اقامة دولة القانون والسعي إلى اللحاق بكل ما هو حضاري في هذا العالم بعيدا عن التزمت والتطرف والتخلف. نجحوا في ذلك نسبيا ولم يترددوا في الاستعانة بافضل ما عندهم من شخصيات على تماس مع التطور والانفتاح. ابرز هؤلاء برهم صالح مثلا الذي انتقل من موقع نائب لرئيس الوزراء في بغداد إلى موقع رئيس الوزراء في اقليم كردستان.
هذا لا يعني ان الوضع مثالي في كردستان العراق. هناك بالطبع تجاوزات وفساد في بعض الدوائر والاوساط. ولكن مقارنة مع ما تشهده مناطق ومدن عراقية اخرى، بما في ذلك بغداد والبصرة، تبدو كردستان جنة. تكفي المقارنة بين البرامج التعليمية الحديثة في كردستان من جهة وما تسعى وزارة التربية العراقية إلى تطبيقه في المدارس والجامعات خارج كردستان من جهة اخرى للتثبت من البون الشاسع بين عقلين ونمطين في السلوك. في كردستان، هناك استعانة بأفضل الجامعات العالمية لتطوير البرامج التربوية، وفي بغداد والبصره والمدن والقرى الاخرى جدل يتناول تعليم الموسيقى والرسم والنحت والتمثيل والاختلاط...
من حق اكراد العراق التفكير في المستقبل وطرح مسألة حق تقرير المصير في بلد كبير يمتلك موارد هائلة، قرر الاميركيون تفكيكه من دون طرح سؤال من نوع هل في الامكان اعادة جمعه؟
نجحت ادارة بوش الابن في تفكيك العراق ولكن ماذا بعد؟ هل ينتظر الاكراد زحف التخلف إلى مناطقهم كي يثبتوا انهم وطنيون يؤمنون بوحدة العراق وانهم لا يريدون طعن العرب في الظهر؟ كل ما فعله مسعود بارزاني انه هيأ شعبه للمستقبل. لم يغشّ احدا. عندما انعقد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن في كانون الاول 2002، تضمن البيان الصادر عن المؤتمر الذي كان برعاية ايرانية- اميركية مفضوحة نقطتين مهمتين هما الاعتراف بـquot;الاكثرية الشيعية في العراقquot; واقامة نظام quot;فيديراليquot;. اين مشكلة الاكراد في حال سعوا إلى الفيديرالية والتزموا حرفيا بالبيان الصادر عن مؤتمر المعارضة الذي مهّد للاجتياح الاميركي الذي بدأ في آذار من العام 2003. لولا الاتفاق على الفيديرالية، التي هي جزء لا يتجزأ من الدستور، لما انضم الاكراد وقتذاك إلى المعارضة التي تحركت تحت الرايتين الاميركية والايرانية. الآن، وفي ضوء تطورات السنوات الماضية والانتخابات الاخيرة، من حق الاكراد التفكير في الصيغة التي تحفظ حقوقهم، خصوصا اذا كانت هذه الصيغة لا تتعارض مع الدستور والقوانين. اين المشكلة في ذلك؟