محمد منصور


فرك الكثير من السوريين عيونهم غير مصدقين ما يرونه ويقرأونه على شاشة البث التجريبي للفضائية الإخبارية السورية التي انطلق بثها مؤخراً، واتصل بعض الأصدقاء كي يتأكدوا أنني قرأت ما قرأوه من أن الإخبارية السورية كما جاء في احد شعاراتها التعريفية: (فضائية إخبارية مستقلة يمولها المجتمع السوري) وهي (تدعوكم للتفاعل معها عبر مشاركتها ومحاسبتها) فهل دقت ساعة محاسبة المواطن السوري لأجهزة إعلامه... وهل يا ترى إذا كتبت وانتقدت هذه القناة بعد انطلاق بثها النظامي، سيكون مسموحاً لي أن أحاسبها من دون أن تحاسبني أي جهة من الجهات إياها، لا سمح الله؟!
سؤال أطرحه ببراءة مطلقة، رغم تفاؤلي المبدأي بتولي الدكتور فؤاد شربجي إدارة هذه القناة، ورغم معرفتي بأن الرجل الذي كان يدير قناة (الدنيا)، والذي تربطني به علاقة صداقة، لم تتأثر رغم كل الانتقادات التي وجهتها في مقالاتي للدنيا أيام كان يديرها... لكن شعارات الإخبارية التي تتوالى في اليوم القصير عشرات المرات، أثارت صدمة وذهولاً في الشارع السوري، حتى ان أحد الأصدقاء قال لي: (هذه ليست شعارات قناة... ولكنها شعارات ثورة) فبخلاف بعض الشعارات التقنية والمهنية التي رفعتها القناة من قبيل: (الخبر والمعنى/ الوقائع كما وقعت والأحداث كما حدثت/ حداثة تلفزيونية وارتقاء إعلامي) أطلقت الإخبارية السورية شعارات (مستفزة)، لأن السوريين نسوها تماماً في علاقتهم بإعلامهم منذ سنوات طويلة... كما حين نقرأ: (من شاور الناس شاركهم عقولهم/ من الناس ومن أجل الناس/ الحيادية في الأخبار والوضوح في الآراء/ إعلام لا يبرر للحكومات أفعالها، ولا للأنظمة سياساتها/ الحرية وسيلتنا والمعرفة مسؤوليتنا)!
وأرجو ألا يعتبر أحد أنني أغمز من قناة إعلام بلدي لا سمح الله، فوزير الإعلام السوري د. محسن بلال، ظهر في تصريح بالصوت والصورة على شاشة الإخبارية، ليقول ان هذه القناة المستقلة (ستنقل الصوت السوري الحقيقي) وهذا يعني أن الصوت السوري الحقيقي لم يكن ينقله الإعلام الذي يديره منذ أكثر من خمس سنوات، والذي كان يمدحه السيد الوزير في السنوات الأولى لتوليه الوزارة، ثم عاد في الفترة الأخيرة لينتقده في تصريحات علنية متبرمة، نقلتها وسائل إعلام إلكترونية وشبه خاصة!
طبعاً لم توضح لنا القناة في شعاراتها مفهوم الاستقلالية الذي تتمتع به.... فهل كونها غير تابعة للهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون يجعلها مستقلة؟! وإذا كانت (لا تديرها الحكومة السورية) كما جاء في تصريح السيد الوزير... فمن أين سيقبض العاملون فيها رواتبهم ومكافآتهم؟! وهل ستصم القناة آذانها عن الاتصالات التي تنقل الأوامر (غير المستقلة) لمسؤول هنا أو هناك... أم أن سقفها سيكون مثل سقف أي (إعلام مستقل) تموله الحكومة التي تحكم باسم الشعب؟!
إن كثرة الشعارات التي طرحتها الإخبارية السورية في بثها التجريبي ذكرتني بمقال كتبه الراحل الكبير محمد الماغوط ذات مرة، استعرض فيه الشعارات التي أطلقها النظام العربي: (الله أكبر والعزة للعرب... دقت ساعة العمل الثوري... ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة... بترول العرب للعرب... ثورة حتى النصر... لا للاستعمار وأعوان الاستعمار... لا صلح... لا اعتراف... لا مفاوضات) ثم استعرض ذكرياته مع كل شعار: (مع هذا الشعار كنت نزيل القاووش رقم 5 ومع ذاك كنت في القاووش رقم 9 ومع ذياك دخلت إلى التحقيق وأنا أحصي على أصابعي كم يوماً بقي لي في السجن، وعندما خرجت كنت أحصي ما بقي في فمي من أسنان. ذكريات... ذكريات... إن كل شعار منها كان بالنسبة لنا 'نيدو' الذي ينمو مع الأجيال)
وهكذا أرجو ألا تكون حالنا مع ترسانة شعارات الإخبارية السورية التي لا يتسع المجال هنا لاستعراض بقيتها، كحال الماغوط مع شعارات القومية العربية... وآمل ألا تبيعنا وهم إعلان حليب النيدو... فتكون الإخبارية السورية هي الخيبة التي ترافق أجيالا عاشت خيبتها مع قنوات سابقة لم تنقل صوتها الحقيقي، كما قال السيد وزير الإعلام. وشخصياً، سأبصم لصديقي الدكتور فؤاد شربجي بالعشرة، وسأرشحه لأهم جوائز الإعلام العربي التي أحدثت أو التي قيد الاستحداث، لو استطاع أن يطبق لنا شعارات الإخبارية السورية على أرض الواقع الفعلي... متمنياً بكل صدق أن ينجح في ذلك.. وأن أخرج بالخجلة والخيبة، أنا وكل من فرك عينيه وهو يقرأ شعاراتها على الشاشة غير مصدق... وإن غداً لناظره قريب).

بالسوري الفصيح: ويكيليكس مؤامرة... وتمثيلية!
في الحلقة التي كان عنوانها (ويكيليكس: مؤامرة أم فضيحة) استضاف برنامج 'الاتجاه المعاكس' اثنين من الكتاب الذين يحسبون على معسكر المقاومة والالتزام القومي: الأول هو الكاتب والصحافي الأردني عريب الرنتاوي مدير مركز القدس للدراسات، والثاني هو الصحافي والكاتب السوري حسن م يوسف... لكن رغم انتماء الضيفين إلى معسكر واحد، بدا واضحاً منذ البداية أننا أمام منطقين مختلفين: منطق يرفض الشعارات والتدجيل ونظريات المؤامرة التي تسخف العقل، يمثله الأستاذ عريب رنتاوي بهدوء واتزان وقوة حجة... ومنطق يعتقد أن كل شيء هو مؤامرة وتمثيلية، وأن سوء الظن من حسن الفطن، وأن وثائق ويكيليكس المسربة منتقاة وتخدم إسرائيل!
قال زميلنا السوري حسن م يوسف: (أنا أعتقد أن هذه التسريبات قد تكون صحيحة، ولا أنفي صحتها ولكنها منتقاة، منتقاة تماما، بحيث أن نتنياهو أعلن سروره واغتباطه لأنه بكل بساطة إسرائيل خرجت الرابح الأساسي، على الرغم مما ارتكبت خلال الأعوام القليلة الثلاثة الماضية من جرائم شنيعة).. وأضاف: (حتى المواقف المتخاذلة الخانعة لبعض الأنظمة العربية ولنسمها بشكل صريح يعني مصر وحتى السلطة الفلسطينية لم يرد عنها شيء... يعني أحد المسؤولين المصريين أعلن اغتباطه بأن تسريبات ويكيليكس.. أظهرت صورة مصر أفضل مما يتوقع)!
وهكذا يعتقد السيد حسن م يوسف، أن السيد أسانج كي يكون موضوعياً، يجب أن يرى الأمور من وجهة نظر دول الصمود والتصدي.. بحيث يفضح مصر الخانعة والسلطة المتخاذلة، ولا يسمح لنتنياهو أن يغتبط أو يعطيه فرصة ليشمت.. حسناً فليذهب كل هؤلاء إلى الجحيم، لكن بالله عليكم ما علاقة تسريبات ويكيليكس بهذه التجاذبات التي تخصنا نحن العرب.. هل كان أسانج في الربع مليون وثيقة مشغولا بالحفاظ على صورة الأنظمة العربية الخانعة التي يكرهها السيد حسن م يوسف؟!
الأستاذ عريب الرنتاوي رد على هذا الكلام بمنطق يستحق الاحترام: (ويكيليكس لم تزعم - أستاذ حسن- بأن لديها كل المعلومات عن كل ملفات العالم، لديها مصدر معين وواضح أن هذا المصدر في مكانين في واشنطن: في البنتاغون وفي الخارجية، لم تصل حتى الآن إلى أيادي ويكيليكس وموقعها الإلكتروني أي وثيقة من الـCIA على سبيل المثال وربما كثير من القضايا التي أثرتها أنت يكون لها ملفات ضخمة في الـ CIA لأن هذا شغل CIA مش شغل خارجية وبنتاغون)..
لكن رغم ذلك يبدو زميلنا حسن م يوسف مرتاباً لأن وثائق ويكيليكس على حد تعبيره الحرفي (تدق إسفينا بين العرب والإيرانيين بكل بساطة، مع أن إيران هناك قواسم مشتركة بيننا وبينها..) الأمر الذي استفز حتى محاوره فيصل القاسم فرد عليه: (يا رجل! ألا تعتقد أن حتى تلاميذ المدارس في العالم العربي باتوا يعرفون أن الكثير من العرب يناصبون إيران العداء؟ يعني هذه أصبحت من المسلمات، لماذا نحمل ويكيليكس هذه الموبقات؟) أما الأستاذ عريب الرنتاوي فيوضح بشفافية: (من مسلمات السياسة في منطقة المشرق العربي بالذات أو في عالم ما يسمى الاعتدال العربي وإيران، أن العلاقة علاقة عدائية، لسنا بحاجة لا لويكيليكس ولا لغير ويكيليكس) لكن الأستاذ حسن يخشى أن يقال له لماذا لم تدافع عن إيران، فيرد: (هذا كلام ليس دقيقا، بدليل أن 80% من المواطنين العرب لا يرون أن العلاقة عدائية بينهم وبين إيران.. إذاً بكل بساطة المشكلة في أصحاب القرار). فيبتسم الأستاذ الرنتاوي متسائلاً: (ليش وثائق ويكيليكس حكت عن الجماهير العربية؟ ما هي حكت عن أصحاب القرار... حكت عن أصحاب المشكلة عن سبب المشكلة... لهذا السبب أنا لما أقول العلاقات العربية الإيرانية سيئة، أنا أدعو لعلاقات طيبة، وأقول إن الرأي العام العربي لا يوافق حكامه على ضرورة استعداء إيران).
وهكذا فوثائق ويكيليكس مدانة لأنها كشفت زيف الحكام العرب ونفاقهم في التعامل مع إيران وتصويرها كعدو في الكواليس... كان يجب أن نحافظ على هذا الزيف كي لا يزداد الشرخ في العلن، لكن تنضج الضربة في الخفاء... وزميلنا حسن م يوسف يرى بالمحصلة أن: (الذي نشر معظمه يسيئ للعلاقة بين المواطن العربي وحاكمه، للعلاقة بين الدولة العربية والدولة العربية، للعلاقة بين الدول العربية والإسلامية)... وهذا الكلام بالنص، فالأستاذ حسن حزين على الإساءة لعلاقة المواطن العربي بحاكمه، وكأن القمع والديكتاتورية والبطالة والفقر وتزوير الانتخابات... لم تسء إلى علاقة المواطن العربي بحاكمه، بل جاءت ويكيليكس المشبوهة والمريبة والمتآمرة لتفعل ذلك.
إن الأستاذ حسن م يوسف الذي اعتاد أن يظهر في الإعلام السوري كي يردد مثل هذا الكلام، أو يستمتع بنفس هذه الآلية من التفكير، فيعتبرونه حكيماً ومفكراً مستنيراً... يجد نفسه في (الجزيرة) أمام امتحان الشفافية والحجة والمنطق والرأي والرأي الآخر... ومن موقع الالتزام القومي نفسه كي لا يحاول أحد حرف دفة المعركة... فيظهر في هذا الامتحان... بالطريقة التي ظهر بها، والتي يحتاجها الاتجاه المعاكس حقاً فالضد يظهر حسنه الضد!