راجح الخوري


أين كنا وأين أصبحنا؟ وإلى أين المصير؟
ستة عقود من الاوهام والاكاذيب راحت تندثر وتذوب، ليعم هذا المدى من اليأس والاحباط quot;المدىquot; الذي نصرّ على تسميته quot;العالم العربيquot;، وأي عالم يمكن رؤيته وسط هذه العوالم المنفرطة مثل قبضة من الزئبق سقطت فوق سطح أملس، فلا تكاد العين بعد حين ترى ذراتها المتناثرة؟
في التاسع من الشهر المقبل يصوت اهل جنوب السودان لمصلحة الانفصال وقيام دولة جديدة، لم تقرر بعد ما تختار لها من اسم. ولم يبق احد لم يجتهد في هذه المنطقة التاعسة لكي يجعل منه انفصالا مخمليا، او بالاحرى تمزقا لا يحدث صوتا او يسبب جروحا ويسيل دماء، لكنه سيمثل في تداعياته الخطرة جدا ما بين المحيط والخليج، منطلقا لأحلام كثيرة انفصالية نائمة في انتظار اللحظة المناسبة.
☐☐☐
انفصال جنوب السودان عن شماله سيكون بمثابة تحرك اكبر quot;فالق سياسيquot; يُحدِث سلسلة من الهزات التي ستخلخل ولو بعد حين انظمة كثيرة ودولاً كثيرة في هذه المنطقة.
لكن المثير ليس ان الانفصال حاصل بالتأكيد. المثير كيف تعامل العرب مع السودان قبل الانفصال وكيف يتعاملون الآن معه. فقد حرصت قمة الخرطوم التي جمعت الرؤساء عمر البشير وحسني مبارك ومعمر القذافي ومحمد ولد عبد العزيز ورئيس حكومة جنوب السودان سلفاكير ميارديت، على طمأنة العرب والناس، الى ان الانفصال سيتم بالحد الادنى من الآلام، اي ولادة مخملية لا قيصرية.
اذاً مبروك، ها هو عمرو موسى، الامين العام لـquot;الجامعة العربيةquot;، الذي quot;فلقناquot; في الحديث عن البرلمان العربي المشترك، والمحكمة العربية المشتركة، والسوق العربية المشتركة وعن طموحات الوحدة العربية المشتركة، يقف في الخرطوم ليطمئن العرب السعداء الى ان طرفي الحكم في السودان لا يرغبان في الحرب... فالحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!
ربما لكي يكتمل عقد الاثارة علينا ان نتذكر ذلك الدرج العالي الذي كانت طموحاتنا تقف عند رأسه ثم راحت تهبط درجة درجة الى الحضيض وما بعد الحضيض.
فقبل ستين عاما تقريبا رفعت الطموحات القومية بيارق الوحدة العربية المرتجاة، ما بين المحيط والخليج... من ينسى المحيط الثائر، ويا لها من ثورة، والخليج الهادر، واي هدير؟!!
بعدها غنى العرب في لياليهم وآفاق احلامهم quot;وحدة ما يغلبها غلاّبquot;، وكان الانفصال ايضا.
ثم نزلنا ربما تواضعا من سماء الوحدة الى سطح quot;العمل العربي المشتركquot;، واي عمل واي مشاركة؟ وتواضعنا اكثر عندما رحنا نتلهى بالحديث عن quot;اتفاق الحد الادنىquot; في العمل العربي المشترك. لكننا لم نختر من هذا الشعار سوى كلمة quot;الادنىquot; وواصلنا هبوطنا المظفر. أسرعنا في الهبوط. وها نحن عند القاع نرفع اصابع النصر، لان الانفصال في السودان سيكون quot;مخملياquot;، تأمل quot;مخملياquot;، وليس في وسع انظمتنا العظيمة اكثر من تأمين الخيش واوراق الشجر لستر عورات الناس!
☐☐☐
غداً يذهب جنوب السودان الى الانفصال، وتستيقظ ما بين المحيط والخليج احلام انفصالية نائمة او مكبوتة.
ويكفي ان نتأمل قليلا في شريط الازمات والمآسي في المنطقة وفي دولها وتحت سطح انظمتها الغارقة في السطحية والبلاهة، لكي نرتعد خوفا وفجيعة.
واذا كان شر البلية ما يضحك، ففي وسعنا ان نقلب على ظهورنا من الضحك والبلايا، وخصوصا عندما نقرأ الآن كلام الرئيس السوداني عمر البشير، الذي وعد اول من امس بمساعدة جنوب السودان على quot;بناء دولة شقيقة آمنة ومستقرة في حال قررت الانفصالquot;!
صدق او لا تصدق. ولو كان البشير بنى دولة سودانية آمنة ومستقرة وعادلة، هل كان الجنوبيون يتحمسون الى هذه الدرجة للانفصال والحصول على دولتهم، وهو حلم كثيرين في هذه المنطقة البائسة؟
يقول البشير ايضا: quot;ان انفصال الجنوب لن يكون نهاية الدنيا، وبعده لا مجال للحديث عن التعدد الثقافي والاثني. والدولة قبل اكتشاف النفط كانت ماضية في خططها وبرامجها...quot;.
اي خطط واي برامج؟
لا ندري طبعا، لكن المؤكد ان الانفصال هو اعلان جديد لموت الوحدة العربية التي قد تموت اكثر من 21 مرة!
فيا للمرارة!