علي بدوان


من المضحك أن تأتي عملية اللطم والنحيب العربية على مستوياتها الرسمية لتفوق الاحتجاج الأميركي ذاته، في ندب حظوظ نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته للمنطقة، وما رافقها من فجاجة إسرائيلية فاقعة عبر إعلان حكومة نتانياهو مصادقتها على تنفيذ عدد من المشاريع الاستيطانية.

فالحالة العربية الرسمية التي انبرت للتنديد بالموقف الإسرائيلي الأخير، انبرت أيضاً للتنديد بحالة الإحراج (نعم الإحراج) التي وقع فيها جو بايدن، في مساوقة تبريرية أرادت منها تبرئة الدور الأميركي من سياسات حكومة نتانياهو إزاء عملية التسوية في المنطقة.

لقد انتهت الجولة الأخيرة وهي التاسعة للمبعوث الأميركي الخاص السناتور جورج ميتشل منذ تعيينه في مهمته في المنطقة، كما انتهت بالتوازي معها جولة نائب الرئيس جو بايدن، والأمور تراوح مكانها لجهة الجمود المطبق على العملية السياسية في الشرق الأوسط، على رغم ضجيج المواقف الإعلامية الأميركية التي دأبت على نشر laquo;التفاؤل المصطنعraquo; منذ شهور عدة، وتحديداً منذ أن أطلق الرئيس باراك أوباما خطابه الشهير في القاهرة في حزيران (يونيو) 2009، والذي وجهه الى العالمين العربي والإسلامي.

لكن الوقائع العنيدة كانت أقوى من كل التقديرات، حيث باتت اليوم تنسف laquo;التفاؤل المصطنعraquo; المشار إليه أعلاه، والذي طالما روج له البعض في ساحتنا العربية، لتبدو المواقف الأميركية الحقيقية وقد تتالت في هبوطها لتنتهي تخومها الى جانب الرؤية الإسرائيلية بالنسبة الى مسار التسوية في المنطقة.

وهنا نستطيع القول إن موجات التفاؤل التي انطلقت في منطقتنا بعيد خطاب أوباما الأول الموجه الى العالم العربي من القاهرة كانت تحمل في طياتها مبالغة كبيرة، والدليل أن الرد الإسرائيلي عليها كان واضحاً، حيث تتالت التفسيرات الأميركية بالهبوط على تل أبيب لتخفيف حدة الانتقادات الإسرائيلية لبعض ما ورد في ذلك الخطاب، خصوصاً عند الحديث الملطف عن حركة laquo;حماسraquo; بطريقة مغايرة للمألوف في الموقف الأميركي من قوى المقاومة في فلسطين في شكل عام، وهو ما استولد صعوبة التنبؤ المسبق بما ستؤول إليه نتائج التحرك السياسي الأميركي بالنسبة الى قضايا وملفات الشرق الوسط، حيث ثمة ملاحظات باتت تؤشر منذ ذلك الحين بأن هناك صعوداً وهبوطاً، بل وتخبطاً، في تقديرات وبالتالي رؤية الإدارة الأميركية لمسار الأحداث في المنطقة.

وعلى الضفة الثانية يمكن القول بأن الانتظار والارتهان العربيين لمواقف أميركية جديدة يعتبر في جوهره علة العلل، فالموقف الرسمي العربي انتظاري واتكالي، وغير مبادر بالمعنى الحقيقي والتام للكلمة، على رغم إطلاق المبادرة العربية منذ قمة بيروت 2002، وهي مبادرة أصابها أوباما في خطابه الأخير في شكل غير مباشر لجهة ضرورة تعديلها لتنسجم مع مسار وفحوى الخطاب.

وعليه فمن كان يأمل من إدارة الرئيس باراك أوباما أن تأتي بالجوهري الجديد في السياسة الأميركية بالغ في أماله، فمصطلحات أوباما التي أطلقها منذ وصوله الى سدة القرار في البيت الأبيض عن تعزيز علاقات التطبيع بين الدولة العبرية والعالمين العربي والإسلامي، تابعها بحديثه المتكرر عن ضرورة وقف أعمال laquo;الإرهابraquo; غامزاً من مشروعية الكفاح الفلسطيني في مواجهة فاشية دولة الاحتلال، وبالتالي فان الخطاب اللفظي لإدارة أوباما حول ضرورة التوصل الى السلام في المنطقة، يأتي من دون تغيير في المضمون ويدس المواقف المنحازة في معسول الكلام، لانتزاع ما هو مطلوب من العرب من الوجهة الأميركية في هذه المرحلة، لتصبح المصلحة الإسرائيلية هي الأقوى حضوراً في رؤية واشنطن.

وهنا يلحظ المتابع لمسار الأحداث تتالي التراجع في الموقف الأميركي، فقد أنهى المبعوث جورج ميتشل زياراته السابقة للمنطقة خالي الوفاض بعد فشله في الجولات الأولى من زياراته في إقناع حكومة نتانياهو بوقف عمليات الاستيطان، ولجأ في الجولات التي تلت الى السير باتجاه صيغة جديدة مصطنعة، تفتقت عنها عبقرية وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون بصيغ التفافية ترقيعية تحت عنوان laquo;كبح جماح الاستيطانraquo;. بل انتقلت كلينتون في أدائها البعيد عن التوازن لتقرير موقف جديد عنوانه أن السلطة الفلسطينية تعرقل عملية السلام من خلال وضع شروط جديدة لبدء المفاوضات السياسية مع إسرائيل. كما سعت لدفع الدول العربية المعتدلة إلى تليين مواقفها للدفع بعملية السلام المتوقفة.

أما الآن، وعلى رغم الأجواء السياسية المخيمة في المنطقة والتي تنبئ بعودة الطرف الفلسطيني الى طاولة المفاوضات (المباشرة/أو غير المباشرة) مع الطرف الإسرائيلي، بعد فترة من التمنع انطلاقاً من الموقف الذي كانت قد اتخذته السلطة الفلسطينية في ظل استفحال عمليات الاستيطان في عموم الضفة الغربية، وفي القدس في شكل خاص، فان العقبات الكبيرة ما زالت تعترض حتى الصيغة الهشة التي تدعو لمفاوضات غير مباشرة لمدة أربعة شهور. وفي هذا الجانب، كانت العديد من المصادر قد أشارت الى أن العودة الفلسطينية الرسمية الى طاولة المفاوضات تحت عنوان laquo;المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيلraquo; هي اقتراح أميركي صرف، بل سماها البعض في الإدارة الأميركية laquo;مفاوضات التقاربraquo;، بوجود وسيط أميركي، تبدأ بعدها laquo;مفاوضات مباشرة بين الطرفين محددة بسقف زمني وبآليات تنفيذ متفق عليهاraquo;، وهو ما اعتبره أكثر المراقبين محاولة للهروب من مطلب وقف عمليات الاستيطان والتهويد، كما يعني أن محادثات التقارب المقترحة ستكون لمرحلة موقتة قصيرة، تتم خلالها تهيئة التربة للمحادثات المباشرة.

إن أغلب التقديرات تنحو للقول بأن صيغة laquo;المفاوضات غير المباشرةraquo; المقترحة أميركياً، لا تحمل عناصر إدامة، لكنها تساعد فقط على خلق حراك تحت عنوان ملء الفراغ في الفترة الزمنية المقبلة، من دون الوصول الى نتائج حاسمة وقطعية ولو في الحد الأدنى بالنسبة الى العناوين التفاوضية المطروحة، وذلك لأسباب عدة أولها التعنت الإسرائيلي الرافض للنزول عند استحقاقات الشرعية الدولية. وثانيها أن بنيامين نتانياهو وضع اشتراطاً مسبقاً للعملية التفاوضية بقبول الطرف الفلسطيني لمبدأ laquo;يهودية إسرائيلraquo; وقيام السلطة الفلسطينية بمطاردة مجموعات قوى المقاومة، وثالثها فقدان التوازن في الدور الأميركي، ومراوحته عند تخوم الموقف الإسرائيلي في النظر الى قضايا التسوية النهائية. ورابعها أن هناك شكوكاً قوية في قدرة الإدارة الديموقراطية على توجيه البوصلة صوب أزمة فلسطين، وهي الغارقة خارجياً في أوحال العراق وأفغانستان، وداخلياً في لملمة تداعيات الأزمة الاقتصادية وإصلاح برنامج الرعاية الصحية على وقع اقتراب موعد الانتخابات النصفية خصوصاً مع تصاعد قوة اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة في شكل لافت هذه الأيام. وخامسها أن دول الاتحاد الأوروبي ما زالت واقعة في مربع التذيل للموقف الأميركي، ولم تستطع الى الآن مغادرة هذا المربع باتجاه تبني مواقف بناءة مستقلة عن سطوة الموقف الأميركي. لهذه الأسباب فان آمال المتفائلين في إمكانية تحقيق اختراق تفاوضي على المسار الفلسطيني الإسرائيلي خلال الفترة القريبة المقبلة ستتبخر على أرض الواقع لتعود الأمور للمرة الألف الى نقطة الصفر.