طالب المولي

إن فكرة التعددية والتسامح لا تتأتى إلا في سياق الحاجة الطبيعية إلى التكوين البشري الخاضع لسلطة العقل، والذي ينحو بعقله وتفكيره في البحث والتقصي لإثبات حالة وجوده كإنسان عاقل مفكر، وعلى النقيض التام والكامل لبقية الكائنات التي جبلت على النسق المتوحد والأحادي في الحياة بحسب تكوينها ووجودها الذي يفضي دائماً إلى حلقة متكررة، وصورة متطابقة لبني جنسها منذ تاريخ وجودها على هذه البسيطة. وهذا ما لم يوجد في بني البشر المتطور بتطور الزمن وبتطور فهمه وعصرنته لواقعه المتجدد، والذي أدى به إلى إحالة كل فكرة أو معتقد إلى العقل، باعتباره نبي الإنسان المعاصر كما يقول أبو العلاء المعري. ولعل فكرة التعددية والتعايش والتسامح التي مازالت مدار النقاش حول طبيعة الإنسان وحاجته، لتكوين إطار خاص لحفظ حقه في مناكفة الأفكار الأخرى، والوصول إلى حل يحفظ للآخرين حقوقهم العقدية والفكرية، وهو الإطار الذي ربما قد يكون الوحيد لاستمرار حياة العقل البشري، في ظل الاكتشافات العلمية الحديثة أو نتيجة للصراعات والتناحر بين المدارس الفكرية والدينية، في ظل القوانين الدستورية في البلاد. فالتعددية بإطارها الفلسفي كما يقول المفكر 'أوليري': 'هي استحالة فهم الحقيقة عن طريق جوهر واحد أو مبدأ واحد، ومن ثم فإن التعددية هنا هي الاعتقاد في تعدد المعتقدات والمجتمعات والمؤسسات، أي أنها على النقيض من الواحدية)، أو كما يقول 'فيرنيفال': 'هو وجود عدد من الجماعات المتمايزة ثقافياً والتي تعيش في إطار مجتمع واحد'. التعددية فكرة ومفهوم يجري خوض غمار معرفتها باعتباره المفهوم الأقرب والأفضل للحفاظ على السلم الاجتماعي، في ظل الخصومات والجدال المتكرر بين أبناء الدين الواحد أو الطائفة الواحدة. ولا تقف تلك الخصومة الفجة إلا بإقصاء الآخر المختلف فكرياً أو دينياً، أو تشويه أخلاق الآخرين أتباع الفكر الليبرالي- نبيل العوضي نموذجاً، بينما لا نجد للخطاب الديني تعريفاً واضحاً لمفهوم التعددية والتسامح، إلا عند ضعف التيار الديني في مقابل التيارات، بينما لا نرى هذه اللغة المتسامحة عند طغيان التيارات الدينية الأحادية التفكير والتوجه في المجتمع. نجد أن الخطاب الديني يستخدم القيم الديمقراطية وآلياتها، باعتبارها لغة عصرية حقيقية فعالة للدفاع عن قضايا بآلية عقيمة، التي عادة ما تستقطب الإنسان البسيط لكي يعيش بسلام، بعيداً عن التوترات والمشاحنات الفكرية العقيمة. الخطاب الديني خطاب شعاراتي شعبوي موغل في البساطة والتسطيح، ويبتعد عن الخوض في أحكام الفقه الديني، الذي يحمل في كثير من فتاواه وأحكامه الإلغاء والإقصاء باعتباره القيّم على الفهم الديني وإنكاره لاجتهاد الآخرين في رؤية تجددية للفقه، ومن الجدير بالذكر أن المسميات لرجال الفقه الديني، تبدأ بالعلّامة المجدد! وهي أقرب ما تكون على عكس هذا الاصطلاح المزيف. فأين نجد حكم قتل المرتد من هذا المفهوم- التعددية؟ وهو سؤال دائما ما يتم طرحه وغالباً ما يتم الهروب منه، في مقابل الآية 'فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر' و'لا إكراه في الدين' و'لا' في الآية هي 'لا' نافية للجنس أي نفي جنس الإكراه كما يوضحه النحاة، ولذلك يبدع الفقهاء في اجتهاداتهم لإقرار حكم الإلغاء في مقابل نصوص دينية تعطي حق الفرد في الإيمان أو الكفر. ولكن يبتعد أساطين الفقه الديني عن الخوض في تلك المسائل التي يجب البدء بها باعتبارها حقاً من حقوق الإنسان الأساسية. بل تحاول المؤسسة الدينية إضفاء الشرعية على هذا الحكم، دون النظر إلى مبررات حروب الردة التاريخية والظروف التي مر بها المجتمع الإسلامي البدائي، في بداية عصر قيام الدولة في محاولة من البعض، للإخلال بالنظام الوليد في شبه الجزيرة العربية، وأياً كانت تلك التبريرات التسطيحية لتلك الأحكام الفقهية السُنيّة أو الشيعية يبقى حكم الإلغاء باقياً، كأساس وحكم فقهي غير قابل للنقض أو التعديل. والتباين واضح لتلك التيارات الدينية وسدنتها حول التعددية كمفهوم وتطبيق عملي، وبين الواقع اليومي المحزن على صفحات الصحف، وعبر فتاوى وممارسات أفرادها وملاحقة المختلفين معهم في المحاكم ومنع المفكرين وغيرهم من دخول الكويت (أبوزيد- العريفي- الفالي- نماذج) وأبطالها الدائمون هم رجال الدين والمتدينون، حتى ليبدو أنها سمة بارزة وواضحة على مدى التلاعب بتلك المفاهيم وتشويهها، ولولا القانون لتطورت التعددية والتسامح كمفهوم خاص بهم إلى العنف الجسدي، والدماء في باكستان والعراق تشهد على حجم المأساة التي خلفتها المؤسسة الدينية.

إن الإيمان بالتعددية والتسامح تحقيق لمفهوم العدالة في المجتمع وتطبيق واقعي وممارسة حقيقية، لتفعيل هذه المفاهيم للحفاظ على النسيج الاجتماعي، ولحق الإنسان في ممارسة دور العقل الفعال في تشكيل حياته بعيداً عن وصاية الآخرين وسلب حقه الطبيعي في التفكير عبر منطلقات دينية أو فلسفية أخرى.

مفهوم التعددية والتسامح والتعايش وحقوق الإنسان والديمقراطية، نتاج الحاجة الاجتماعية للتعايش، في ظل قوانين دستورية إنسانية غير خاضعة لأحكام وأهواء المؤسسات المتطرفة.

ويبقى التلقين والتقليد الأعمى سمةً بارزةً في المجتمع الكويتي، لتقديم الوجبات الجاهزة والمعلبة لكل صغيرة أو كبيرة، دون عناء البحث والتقصي حول فهم تلك الرؤى الفلسفية العظيمة، وتبقى التعددية والتعايش والتسامح مجرد مصطلحات لا تطبق إلا حين يضعف دور المؤسسات الدينية.