غازي دحمان
تنذر التطورات الأخيرة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط بحدوث متغيرات مهمة في بنية النظام الدولي، وتراتبية القوى فيه، وآليات اشتغاله. ومن نافل القول إن هذه الأحداث سوف تكون مؤشراً قوياً إلى انطلاق واقع دولي جديد ومختلف.
وتبدو الولايات المتحدة الأميركية، في عهد إدارة الرئيس اوباما، وكأنها تعيد بناء النظام العالمي انطلاقاً من الشرق الأوسط، حيث يقاس مدى فاعلية هذا النظام بقدرة واشنطن على بناء تحالفات متماسكة بخصوص قضاياه، سواء في ما خص ملف الصراع العربي الإسرائيلي، او الملف النووي الإيراني.
وباستثناء الشرق الأوسط، لا يبدو أن ثمة متاعب ذات وزن تواجه المدير الأميركي، ذلك أن الخلافات مع أوروبا يمكن حلها على الدوام ضمن الأطر السياسية والمؤسسات التي يشترك فيها الطرفان، هذا ناهيك عن اندراج هذه الأطراف ضمن نسق قيمي وتفاعلي من نمط واحد، والاختلاف يندرج ضمن هذا النمط. وحتى الإشكالات التي تواجهها واشنطن في شرق وجنوب آسيا، لا تحمل طابع الخطورة، ولا تتضمن إمكان التغيير، بالنظر إلى نجاح واشنطن في (تجنيس) الحالة الصينية، وإعطائها طابعاً رأسمالياً، وتحويلها إلى مجرد نزاع حول كمية الإنتاج وسع صرف اليوان الصيني.
وتتسم الإستراتيجية التي تتبعها إدارة اوباما، في تعاطيها مع التحديات التي تواجهها، بالليونة، ما لم تمثل خطراً داهماً على المصالح الأميركية، الأمر الذي سيدفع الإدارة حينها إلى شن حرب الضرورة، على ما يسميها ريتشارد هاس.
ولعل الخطر الأكبر الذي تواجهه الإستراتيجية الأميركية في احتمال حدوث متغيرين:
الأول: ان تقوم حكومة نتنياهو بتوريط الإدارة الأميركية بحرب، بقيامها بضرب المنشآت النووية الإيرانية، فتقوم هذه الأخيرة بضرب القواعد والأهداف العسكرية الأميركية في المنطقة، حينها ستجد الإدارة الأميركية نفسها أمام حالة حرب لا يمكنها تجاهلها. ولإدراك إدارة اوباما لهذا الخطر، فقد أرسلت الجنرال مايكل مولن، رئيس الأركان الأميركي إلى إسرائيل في شباط (فبراير) الماضي حاملاً رسالة واضحة تقول لقادة إسرائيل: ليس لديكم تفويض ان تفاجئونا فتنفذوا خطوة عسكرية حيال إيران من دون التنسيق معنا، على حد ما ذكر اليكس فيشمان في صحيفة laquo;يديعوت احرونوتraquo;.
الخطر الثاني: يتمثل في إمكان قيام إيران بتسخين جبهة المواجهة بين إسرائيل والعرب، وتحديداً عبر الجبهة اللبنانية، وتسعير الحرب لتمتد إلى سورية. وليست خافية على احد الأهداف الإيرانية من وراء ذلك، كصرف الأنظار عن برنامجها النووي، وتخفيف حدة الضغوط الممارسة عليها، فضلاً عن رغبة النظام الإيراني في الخروج من الأزمة الداخلية التي تهدد مستقبله، عبر انتهاج سياسة الهروب إلى الأمام ومحاولة الهاء الشعب بقضايا تشغله عن مشاكله الداخلية.
تتراكم هذه الاحتمالات، في وقت تحاول الإدارة الأميركية الخروج من الشرق الأوسط، أو على الأقل أن لا تبقى أسيرة الحالة التي وضعتها فيها الإدارة السابقة، وهي حالة التدخل العسكري المباشر، وذلك سعياً للملمة الإخفاقات العديدة التي منيت بها، وإعادة صوغ نمط جديد من التفاعلات، تقلل فيه حجم الخسائر والإخفاقات، وتبقي على خطوط سيطرتها فاعلة ومؤثرة.
ولكن ماذا لو أن ادارة اوباما فوجئت بحرب في المنطقة لم تتحسب لها ولم تستطع السيطرة على تفاعلاتها؟ كيف ستتصرف في هذه الحال، وهي الواقعة تحت تأثير وقع ضغوط كبيرة تمارس عليها من اللوبي المؤيد لإسرائيل، والجمهوريين الأميركيين على السواء؟ هل ستتبع النهج التقليدي الأميركي، القاضي بدعم إسرائيل دبلوماسياً ومدها بالمعدات والذخائر العسكرية، وبذلك تساهم في تعميق ورطتها الشرق أوسطية، أم أنها ستتبع نهجاً مختلفاً يتفق وخطاب اوباما نفسه بضرورة إيجاد حلول سلمية لأزمات البيئة الدولية؟
ثم ماذا لو أن إسرائيل دفعت المسارات المختلفة في المنطقة دفعاً باتجاه الحرب، وبخاصة ان الأمور باتت ناضجة لمثل هذا الحدث، نتيجة إصرار إسرائيل على تثبيت وقائع نهائية تكرس هيمنتها في ظل بيئة دولية مؤاتية؟
المشهد المحتمل للاستجابة الأميركية في مثل هذه الحالة، هو الوقوع في الغرق في حالة من البلبلة يثيرها اللوبي المؤيد لإسرائيل والجمهوريين، ويزيدها عمقاً الارتباك الديموقراطي الذي سينحاز حينها الى توجهات شارعه الأميركي، والذي سيكون حكماً مؤيداً لإسرائيل بفضل تأثير الماكينة الإعلامية، وفي حال حصل ذلك ما هي الآليات والفلسفة التي ستتبعها الولايات المتحدة الأميركية، في مشروع إعادة تموضعها العالمي على أسس جديدة؟ هل ستحاول مرغمة إحياء نهج إدارة بوش الابن، والتعامل بقبضة حديد مع التحديات العالمية، أم الاستمرار بالنهج الأوبامي، غير الواضح المعالم والأهداف، والذي سيفقد بريقه وصدقيته إزاء تطورات الأحداث؟
لا شك في ان الإستراتيجية الأميركية تمر في هذه المرحلة بأزمة عميقة، تبدو أسبابها متعددة، منها عدم وضوح رؤية نخبها، ومنها توسع طموحات أميركا بما يفوق قدرتها، ومنها ما يطلبه منها العالم، إلا انه على رغم ضخامة الهم والحلم الأميركي وتمدده على جغرافية العالم كله، إلا أن الشرق الأوسط يبقى درة الحلم الأميركي وتاج همومه المتراكمة على الدوام.
التعليقات