حسن حنفي

الخطاب الديني من أهم الخطابات في الفكر العربي القديم والمعاصر. ما زال يطغى على الخطاب الفلسفي العقلاني، والخطاب العلمي التجريبي، والخطاب الفني الجمالي. ينتظره الناس، ويتوقعون منه الكثير. يلجأون إليه حين المصائب في العزاء والأفراح، في الصوانات وفي الزفات، عند المقرئين والأطفال الذين يحملون أجزاء المصحف على أيديهم وهم لابسون بدل السهرة السوداء والقمصان البيض، وتتناثر فوقهم الورود، وتدق حولهم الدفوف، وتنشد بأسماء الله الحسنى بداية بالبسملة. يلجأ إليه الناس كوسيلة للتغلب على أوضاعهم الاجتماعية كما هو الحال في عبارة quot;لله يا محسنينquot; عند الشحاذين في الشوارع على نواصي الطرق بأصوات مؤثرة تدخل الحزن في القلوب من الصباح إلى المساء. يفسر به الناس حياتهم اليومية وكل ما يحدث فيها من وقائع. كلها بقضاء وقدر.

لا يحتاج إلى إقناع واقتناع لأنه يصدر عن ثقافة الناس وتاريخهم العريق. يتعلمونه منذ نعومة الأظفار. ويشربونه مع لبن الأمهات. وهو طاقة كامنة في قلوب الناس، لكن لم يستفد منها المجتمع بعد إلا على نحوين، إما الرضا بما هو قائم والاستسلام للمكتوب بدعوى القضاء والقدر وحدهما. وإما الغضب ضد الواقع بدعوى حرمة الظلم. والاستخدام الأول هو الأكثر شيوعاً. والسائد في الخطاب الديني الرسمي المطابق للإيمان. في حين أن الثاني ينظر إليه على أنه إلحاد ومادية وماركسية وشيوعية ضد الإيمان. ظهر الأول في التاريخ عند الأمويين تدعيماً لسلطانهم. وظهر الثاني عند المعتزلة والخوارج والشيعة ضد ما اعتبروه حكماً ظالماً في زمنهم.
إنه الخطاب الذي غيَّر تاريخ العرب. وحولهم من عشائر متفرقة متنازعة متحاربة إلى دولة مركزية وإمبراطورية ممتدة شملت كل العالم القديم، وورثت الإمبراطورية الرومانية حتى ألغى مصطفى كمال الخلافة في 1924، وتفتتت، وانقضت عليها الدول الاستعمارية الأوروبية الحديثة وابتلعتها بالاحتلال المباشر أو بالتبعية والأحلاف غير المباشرة. وقد أقام حضارة زاهرة، الحضارة العربية الإسلامية التي ورثت اليونان وساعدت على نهضة الغرب الحديث في العلوم والفنون والآداب. مازلنا ننشرها وندرسها ونعتز بها حتى الآن.

ثم أصبح الخطاب الديني اليوم لدى البعض خطاباً عائماً ليس له واقع. وكأنه لا يشير إلى شيء ولا يهدف إلى تحقيق غاية إلا ملء الفراغ. أصبح عندهم خطاباً مكرراً معاداً لا يقول شيئاً جديداً. وقد يبعث على الملل عند البعض، يدخل في أذن ويخرج من الأذن الأخرى. ولا يبقى في الذاكرة، ويطويه النسيان. وهو خطاب نظري مجرد بعيد عن حياة الناس. قد يتناول أموراً معروفة بذاتها ولا يشك فيها أحد مؤمن أو عاقل، مثل التوحيد، وخلق العالم، وأمور المعاد. هو خطاب مطلق يتناول كل الزمان والمكان وكأن التاريخ لا مراحل فيه، والزمان لا يتغير، والعصور لا تتبدل. خطاب يتحدث في الماضي وليس في الحاضر، فيما وقع وليس فيما يمكن أن يقع. اتهمه البعض بالماضوية والبعض الآخر بالسلفية، بالمعنى الزمني التاريخي للكلمة. يعتمد على النص المجزأ المنتقى بما يتفق مع هدفه وهو غياب أي هدف وعدم قول أي شيء، مجرد ملء فراغ وأداء وظيفة.

وهو الخطاب الذي قد يفضله جهاز الدولة، وتتبناه خطاباً رسمياً لها في المناسبات الدينية والأعياد وفي البرامج الدينية في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وفي الفضائيات. وتوصي به أئمة المساجد. وقد يستخدم في تبرير السياسات الرسمية للنظام. ويبرز التفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء. هو الخطاب الرسمي للمناصب الدينية، وهي مشيخة الأزهر، ودار الإفتاء، ووزارة الأوقاف، ومجامع البحوث الإسلامية، وأئمة المساجد، والمؤذنون، والمحامون، والقضاة الشرعيون، وربما حتى بعض أجنحة الجماعات الأصولية أيضاً.

وهو الخطاب الإعلامي الذي أصبح وظيفة وحرفة ودعاية مثل باقي المنتجات التي يتم الإعلان عنها للترويج لها. يتقلد فيه المتخصصون المناصب. وينالون فيه الشهادات. موظفون في الدولة يعانون مما يعاني منه باقي الموظفين. يفرحون بالعلاوة. ويستنجدون المسؤول لزيادة المرتبات. ويهتفون للمنح في الأعياد والمناسبات. ويعطون دروساً خصوصية في اللغة العربية وربما في الحساب والعلوم الرياضية، وأحياناً في كل شيء، فرجل الدين عالم بكل شيء، علوم الدين وعلوم الدنيا. وقديماً سأل الفقهاء: هل يجوز التكسب بقراءة القرآن؟

وإذا كان هذا الخطاب في صالح الحكم على نحو مباشر تدعيماً لسلطته فإنه قد يتوجه أيضاً إلى المحكوم لاحتوائه باسم الأوامر والنواهي، والواجبات والمحرمات. هو الخطاب الذي يهدد ويتوعد، يحث على أداء الواجبات، ولا يحرض على الحصول على الحقوق. يتوعد باسمه البعض غيرهم بالصلب والقصاص والرجم والجلد وقطع اليد دون بيان العلل والأسباب، ودرء الحدود بالشبهات. وكما قد يتوعد بالنار، قد يعد في المقابل بالجنة والحور العين، وبعالم لا يجوع فيه أحد ولا يعرى. فينشأ الناس على الطاعة. ويتربون على الخوف. وينتظرون الخلاص من مآسي الدنيا بعد الموت. لا يوجد فيه بحسب هذا الفهم الخاص إلا الواجبات والمحرمات، ما يُفعل أو ما لا يفعل. ويغيب عنه المندوب والمكروه ما يفعل اختياراً وما لا يفعل اختياراً حتى لا يتعود العامة على الحرية والاختيار. ويغيب عنه المباح أي ما تركته الشريعة بلا حكم شرعي. شرعيته في وجوده، شرب العطشان، وطعام الجائع، ولباس العاري، وإيواء الشريد. وعلاج المريض، وتعليم الأمي، وتأمين الخائف. ويحث البعض على الخطاب الأوحد، وquot;الفرقة الناجيةquot; ضد الفرق الهالكة. بل يحث أحياناً على العنف اللفظي أو الحسي ضد الخصوم دون حوار. هذا في حين كان هذا الخطاب يعبر عن روح الحضارة الإسلامية وتعدديتها الفكرية.

وهو خطاب يستلزم quot;عِدة الشغلquot;، يقول البعض، مثل العمة والقفطان والسبحة والذقن والشارب والحجاب والنقاب، وتخمة الصوت والتمتمات quot;يا ساترquot; وطأطأة الرأس، وتسبيل العينين وكل مظاهر الإيمان الشعبي. يتميز به رجال الدين عن غيرهم، هذا في حين أن الإسلام لا يفرق بين الدين والدنيا. وعِدة الشغل هي فأس الفلاح، ومفك العامل، وكتاب الطالب، وسلاح الجندي. فالعامل خير من العابد.

وهو خطاب يظهر خاصة في المناسبات الدينية والأعياد والموالد. وترتبط به العادات الشعبية، عروسة للبنات وفارس المولد للفتيان، وquot;الكنافةquot; وquot;القطايفquot; وquot;قمر الدينquot; والمكسرات وحلوى رمضان وخروف العيد ومراجيح الأطفال وعيدياتهم. فالدين وعاء شعبي للفرح والحزن، للنصر وللهزيمة، للالتزام أو الاغتراب.