صالح سليمان عبد العظيم

الحديث عن الإعلام العربي حديث ذو شجون، ينكأ الكثير من الجروح ويثير الكثير من القضايا.

وعلى رأس هذه القضايا مسألة القوى المحركة للإعلام العربي، والتي تتحكم في عقول الملايين من العرب، وتعيد صياغة توجهاتهم. فالإعلام العربي توسع بدرجة غير مسبوقة إلى درجة أن مراقبة خريطته الآن أصبحت مسألة على قدر كبير من الصعوبة، وإن كان من الممكن تلمس بعض خطوطها العريضة في المنطقة.

ظهرت أول قوة إعلامية حقيقية في المنطقة بعد مرحلة الاستقلال، وظهور ما يعرف بالدولة الوطنية. ولعبت هذه القوة دورا كبيرا في تشكيل الخريطة الإعلامية، وامتلكت مساحة كبيرة من التأثير. واستطاعت هذه القوة تكوين كوادر عديدة في قطاع الإعلام مستغلة في ذلك صعود الخطاب العروبي في المنطقة، ومستفيدة من الزخم الشعبي الجماهيري.

ولا يمكن إنكار حسن نوايا الجماهير رغم غوغائيتها سواء بالتوافق مع إعلام تلك الفترة أو الخلاف معه. ورغم وجود إعلام حقيقي في المرحلة الليبرالية السابقة على الاستقلال إلا انه لم يمتلك ذلك النوع من التأثير الذي دعمته الدولة واستخدمته لإعلاء خطابها السياسي.

الغريب في الأمر أن الإعلام العربي في هذه الفترة لم يتطور بفعل التحولات المرتبطة بعملية الإعلام والآليات الخاصة بها، بقدر ما تطور بفعل المشروعات الأيديولوجية من ناحية وبفعل الصراع العربي الإسرائيلي، والعربي العربي من ناحية أخرى.

ورغم ذلك فإن الأمر لم يقف عند مستوى الأيديولوجيات فقط، فمما لا شك فيه أن البدايات، رغم الصعوبات المرتبطة بها، أنتجت كوادر جيدة مثلت مصدرا كبيرا لتواصل الإعلام وتدريب الأجيال الجديدة.

ويمكن القول بأن هذه المرحلة استحوذت على فترة الستينات على وجه الخصوص، قبل أن تواجه العديد من الصعوبات المرتبطة بالتغير النسبي للخريطة الإعلامية في السبعينات وما تلاها.

واتسم إعلام هذه المرحلة بأنه إعلام دول يستند إلى ميزانياتها ويدافع في الوقت نفسه عن أيديولوجياتها المختلفة. ورغم وجود بعض المحاولات الإعلامية المستقلة إلا أنها بشكل أو بآخر كانت تعتمد في تواصلها على تعاملاتها مع أنظمة بعينها.

وفي هذا السياق ارتمت العديد من وسائل الإعلام الخاصة في أحضان الأنظمة وانتقلت من هذا إلى ذاك بدون أي شعور بالخجل أو الامتهان.

ومع تحولات السبعينات المختلفة تفككت سلطة الدولة في العالم العربي مرورا بالثمانينات وما بعدها. وهو أمر وسع من دائرة الإعلام الخاص، على الرغم من استمرار تبعيته للعديد من الأنظمة العربية المختلفة.

ومما زاد من انتشار الإعلام في هذه الفترات بشكل كبير الصعود المالي النفطي، ومحاولة بعض الدول والجهات خلق إعلام منافس لإعلام الفترة السابقة. فلم يعد إعلام الستينات يستحوذ على المنطقة بقدر ما حاول الحفاظ على بعض من مكانته السابقة. وهي مسألة ما زال ينافس فيها من خلال كوادره البشرية الخاصة به، ومن خلال توجهاته الأيديولوجية أيضا.

ويمكن الحديث الآن عن نوعين من الإعلام في العالم العربي فيما يتعلق بالكوادر البشرية: أولهما يرتبط بالإعلام القديم وهو يمتلك الكوادر البشرية الخاصة به، ويستفيد منها ومن قدراتها رغم ضعف المصادر المادية المتاحة أمامه.

والآخر لا يمتلك كوادر بشرية تؤهله للعمل الإعلامي الحقيقي، لذلك فهو يصنع إعلام تسليم مفتاح، من خلال استدعاء الكوادر من كافة الدول العربية وبعض الدول الغربية، ويؤسس إعلاما يحركه بمعرفته ويوجهه وفقا لتوجهاته الخاصة به.

واللافت للنظر هنا أن الإعلام العربي لم يستقل عن سلطة الدولة منذ الستينات وحتى الآن. وحتى الإعلام الخاص الثري فإنه يفضل أن يتحرك في ركاب الدولة وألا يثير غضبها أو عداءها.

والمهم في هذا السياق أن التطورات الطفرية الحادثة في الإعلام العربي ارتبطت أيضا بالصراع العربي والعداء بين دوله. فبعض القنوات الفضائية نشأت من أجل مواجهة قنوات أخرى، كما أن بعض الصحف نشأت من أجل مواجهة صحف أخرى أيضا.

فما زالت لعنة الأيديولوجيات تطارد الإعلام العربي، وتقيده بدرجة كبيرة سواء من خلال تقييده بقيود الدولة، أو من خلال توجيهه من أجل صراعات قومية سخيفة لا طائل من وراءها سوى تشتيت عقول الشعوب العربية وإرباكها.

لم تعد هناك مشكلة مالية تواجه الإعلاميين العرب، سواء أكان المال حكوميا رسميا أو مالا خاصا يرتبط برجال الأعمال، لكن المشكلة الأساسية التي تواجه الإعلام العربي هي قدرته على الخروج من رحم الصراعات القطرية الضيقة، وتأسيس رؤى جديدة تصب في مجال التنوير والوعي والتحديث بعيدا عمن يمتلكون المال ويتحكمون في الإعلام.