سعيد نفّاع
هجرة المسيحيين العرب.. laquo;دق النواقيس أم دق النوى قيسي raquo;؟ - ا ف بالعرب المسيحيّون والعرب المسلمون في الشرق كانوا على مدى القرون توأمين سياميّين حياة وفكرا، فرحا وهمّا، على رغم كل التداعيات والتحديّات التي واجهت هذا الشرق بصراعه المستمر مع الغرب، وعلى رغم العوامل المحليّة الطوائفيّة. ما نعرفه كلنا في كل أرجاء وطننا العربيّ أنّ الوجود العربي المسيحي في شرقنا، هو في تناقص عدديّ وليس لأسباب بيولوجيّة، ونحن نعرف هذه الحقيقة ونعرف أسبابها ولكننا نخاف قول بعض الأسباب جهرا.
هذا التناقص ليس خاصّاً بمنطقة أو ببلد، وإنما يشمل كل أماكن الوجود.. من العراق شرقا وحتّى مصر غربا، مرورا بفلسطين مولد السيّد المسيح (ع) والمسيحيّة ونقطة انطلاقها. وقد طفا الموضوع على السطح مؤخرا وكثرت الاجتهادات فيه لدى كثير من القيادات العربيّة المسيحيّة في المنطقة والقيادات الدينيّة المسيحيّة حتّى أعلاها، سيّد الفاتيكان.
الحفاظ على الوجود العربي المسيحيّ في المنطقة، هو ليس عاطفيّا فقط، ومن منطلق كونهم توأماً لنا، وإنما كذلك من كون هذا الوجود من مصلحة التوأم الآخر المسلم على مختلف مذاهبه، خصوصاً أن الإسلام يتعرّض لحملة تشويه منهجيّة تلعب الحركة الصهيونيّة دورا فاعلا فيها.
موضوع هذه المقالة هو الوجود المسيحي في فلسطين، ففيها لم ينج الكثير من المسيحيّين من التهجير النكبويّ في الـ 1948.. والكثير من قراهم هُجّرت أسوة بالقرى الأخرى، وحملوا همّ ونتائج النكبة، تماما كما حملتها بقيّة شرائح أبناء شعبنا الفلسطيني. لكن التناقص في عدد من تبقى منهم في البلاد ممّن تبقى بعد النكبة من أبناء شعبنا، يثير الكثير من التساؤلات التي نعرف إجاباتها، وفي الكثير من الأحيان نخاف الجهر بها. الخوف من الإفصاح عمّا نعرفه في هذا السياق حتى لو كانت معرفتنا منقوصة، عامل مقو لهذا التناقص، وربما أن الانتقال من المعرفة الذاتيّة إلى القول العلن يعزز هذا الوجود ويوقف الهجرة المتزايدة ويقي البيت.
المعطيات التي نشرتها مؤخرا دائرة الإحصاء المركزيّة، والمعطيات التي جاءت في استطلاع د.جريس خوري، ونشرتها صحيفة laquo;كل الناسraquo;، يجب أن تقلقنا جميعا، وتدفعنا للجهر بأسباب أساسيّة ومن دون مواربة، وانطلاقا ليس من ألم فقدان التوأم حياة وفكرا فقط، وإنما مصلحة كما قلت أعلاه. فحسب هذه المعطيات:
في العام 1950 كانت النسبة من عرب الـ 48: للسنّة 70 % وللمسيحيين 21 % وللدروز 9 %.
في العام 1970 صارت النسبة للسنّة 75 % وللمسيحيين 17 % وللدروز 8 %.
في العام 1990 كانت النسب على التوالي 78 %، 13%، 9 %. (عدم التناسق بين هذه النسب وما قبلها نابع من شمل سكان القدس وسكان هضبة الجولان في الإحصاء).
في العام 2008 كانت النسب على التوالي 83 %، 8%، 8 %. ومن المتوقع أن تكون العام 2030 : 86 %، 7%، 7 %.
تزايد الأقليّة العربيّة في الـ 2008 جاء في الأساس نتيجة طبيعيّة للتوالد والوفيّات 39,000 ولادة و-4,000 وفاة، ونسبته 2.6 % في هذه السنة في حين كان 3.4% بين السنوات 1996-2000، وللمقارنة فعند اليهود كانت النسب على التوالي 1.8 %، 1.7 %. أما النسب فيما بين توائم الشعب الفلسطيني فهي كالآتي:
المسلمون: 3.6 % في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 2.8 % في العام 2008.
المسيحيّون: 1.9 % في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 1.3 % في العام 2008.
الدروز : 2.4 % في الأعوام 1996 - 2000 تراجعت إلى 1.8 % في العام 2008.
نرى أنه منذ سنوات الخمسينيات تزايدت نسبة المسلمين السنّة من بين فلسطينيي البقاء، ونقصت نسبة المسيحيين، وحافظ الدروز على نسبتهم أخذا بالحسبان شمل 20,000 درزي في هضبة الجولان المحتلّة وقرابة الـ 250,000 مسلم ومسيحي في القدس الشرقيّة المحتلّة.
laquo;كيف تفكك إسرائيل القنبلة الديموغرافيّة؟raquo; عالجت موضوع هذا التراجع لدى العرب مجتمعين بعمق. وما حداني إلى معالجتي هذه هو هذا التراجع الكبير في نسبة توأمنا المسيحي، من 21 % بعد النكبة إلى 8 % العام 2008 والمتوقع لـ 7 % عام 2030. الأرقام أعلاه تفيدنا أن نسبة الزيادة الطبيعيّة المنخفضة عند هذا التوأم لا تؤدي ولا بأي شكل من الأشكال إلى هذا التدني بمقدار الثلث.
ما نعرفه هو أن السبب الرئيس لهذا التراجع هو الهجرة الواسعة بين المسيحيين والقليلة نسبيّا عند السنّة وشبه المعدومة عند الدروز. والسؤال هو: هل هذا نابع ممّا نقوله ونفصح عنه مثلا عن إمكانيّة أوسع لديهم للاندماج في المجتمعات الغربيّة لأسباب دينيّة؟ أو أنّ التفتيش عن مستوى حياة اقتصاديّ أفضل هو السبب؟
البحث عن فرص العمل والأمان
ما من شكّ أن نسبة المتعلمين بين المسيحيين كانت ومازالت الأعلى بين كل توائم أبناء شعبنا. ويكفي للدلالة أن نسبة الحاصلين على شهادات الثانوي المؤهلة للجامعات للسنة الدراسيّة 2007/2008 وصلت بين المسيحيين إلى 53 %، بينما وللمقارنة وصلت عند المسلمين إلى 31 % وعند الدروز إلى 37%. أما عند اليهود فإلى 48 % وهذا يعود لشمل الوسط الديني المتشدد وبلدات التطوير ففي البلدات المتمكنة تصل النسب إلى فوق الـ 80 %. فمبدئيا هذا التحصيل يؤهل الشباب العرب المسيحيين في كل المجالات، فلماذا يفضلون مع ذلك الهجرة؟
في ضوء ذلك فالأسباب المعروفة والمتداولة والمُفصح عنها هي جزء من السبب، ولكن السبب الأساسي والحقيقي لهذه النتيجة متعلق بالشعور بالاغتراب والأكثريّة هي المسؤولة. لقد فقد شعبنا لفترة توأما آخر هم العرب الدروز لأسباب كثيرة سلطويّة وذاتيّة، ولكن لا يمكن أن نبقى طامري الرؤوس في الرمال معفين أنفسنا كأكثريّة سنيّة من المسؤوليّة، إذ تساوقنا مع فصل التوأم هذا، وحتى عندما يحاول وبجد الرجوع إلى مكانه الطبيعيّ، لا نجد الاستعداد المطلوب لعودته، إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل نحن في طريق فقدان التوأم الآخر العربي المسيحي؟!
في استطلاع للرأي نشر مؤخرا كما ذكرت للدكتور جريس خوري جاءت النتائج:
72 % من الشباب المسيحيين يشعرون بالضياع من حيث الهويّة والانتماء.
46 % يرون في المركب المسيحي أولا في هويتهم.
29 % يرون في المركب العروبي أولا في هويتهم.
10 % يرون في المركب الفلسطيني أولا في هويتهم.
و83 % يرون أن العلاقات مع المسلمين والدروز قد ساءت في السنوات الأخيرة، و%61 يرون أن التعصّب الديني لدى الطوائف ينبع من الجهل الذي يعاني منه كل طرف في نظرته للآخر.
اعتادت قرانا المتجاورة قبل الـ 48 ونتيجة لظروف الحياة وضعف الحكم المركزي أن تعقد تحالفات بينها للدفاع عن أنفسها، ولم تكن لهذه التحالفات صبغة دينيّة والتاريخ القريب يعرف laquo;حلف الدمraquo; الذي كان بين بيت جن الدرزيّة وسحماتة المسيحيّة وعرابة السنيّة. فكيف يصير أن 83 % من الشباب المسيحيين يرون أن العلاقات ساءت؟ وأكيد أنّ نسبا متقاربة كنت ستجدها عند الشباب السُنة والدروز لو استطلعت آراءهم!.
سياسة صهيونية
الدكتور جريس يعزو هذه النتائج فيما يعزو إلى أسباب تقليديّة نعرفها مثل مناهج التدريس وغيرها، ولكنه يشير وبـ laquo;حياءraquo; إلى دور القيادات العربيّة المقصّر في تعزيز الشعور بالانتماء وإلى تنامي الحركات الإسلاميّة التي تتوجه للمسلمين فقط. يمكن أن نتفهّم هذا laquo;الحياءraquo; عند الدكتور جريس، لكنه زاد عن الحد في حيائه.
النتائج أعلاه هي تماما التي أرادتها الحركة الصهيونيّة وقبل قيام الدولة بكثير، ففي العام 1920 وإثر انتفاضة أبناء شعبنا التي سُميت laquo;ثورة القدسraquo;، زار وايزمن رئيس المنظمة الصهيونيّة البلاد متفقدا باحثا عن السبل الكفيلة بتسهيل قدوم اليهود، وقد وجّه لجنة المندوبين في المنظمة الصهيونيّة لتحضير برنامج عمل بين عرب فلسطين جاء في هذا البرنامج:
laquo;يجب تنظيم أواصر صداقة مع العرب وبث روح العداء بين المسيحيين والمسلمين وتعميق الفارق في المجتمع الفلسطيني عن طريق إبعاد البدو عن باقي العرب وزرع الفتن بين المسيحيين والمسلمين والدروزraquo;.
عدوّنا لم ينوِ لنا الخير، ولا ينويه، وهذا أمر مفروغ منه تاريخيّا وحاضريّا ومستقبليّا كذلك، ولكن هل نحن ننوي الخير لأنفسنا؟
في مذكراته يروي المغفور له الحاج أمين الحسيني كيف كان الإنجليز يطلقون سراح مجرمين من السجون ويسلّحونهم ويوجهونهم للقيام بالاعتداء على المسيحيين، ويروي حادثة عينيّة.. وكيف أوكل المجاهد عبدالقادر الحسيني القضاء عليهم، وليس الحال بمختلف اليوم، وإن اختلفت طرقه وأدواته.
المعطيات أعلاه لا تشير إلى أننا ننوي الخير لأنفسنا، ويجب أن نقولها ومن دون حياء ولا مواربة ولا تورية ولا ديماغوجيّة: إنّ فقداننا هذا التوأم نابع كذلك وفي الأساس من تعاملنا نحن أبناء المذاهب الأخرى مع توأمنا هذا. فما حدث في الناصرة في قضيّة شهاب الدين، وما حدث في laquo;المغارraquo; وlaquo;عيلبونraquo; ومؤخرا في laquo;شفاعمروraquo; من اعتداءات، وما حدث ويحدث في laquo;طرعانraquo; وlaquo;اعبلينraquo; من صراعات... وهكذا في نجع حمادي في مصر، ونينوى في العراق، عوامل أساسيّة إن لم تكن الأساس في فقداننا هذا التوأم المهم جسديّا ومبدئيّا ومصلحيّا كذلك، وفقط لأنه laquo;شريكraquo; مع الغرب في الانتماء الدينيّ، وكأننا بذلك نقتص من الغرب، لكن هذا ليس معناه أن يتقوقع كذلك هذا التوأم اجتماعيّا، وحتى اقتصاديّا، ومهما كانت الظروف، ففي الكثير من الأحيان تُسمع هذه الادعاءات تجاهه ومن دون علاقة للاعتداءات أو الصراعات وفيها الكثير من الصحّة.
تعزيز التواصل الوطني
لا يقلّ عن هذه الأسباب الخطاب الدينيّ الإسلامي المحض كذلك في المناسبات الوطنيّة لدى الكثير من القيادات الإسلاميّة الوطنيّة، وهذا ما أشار إليه الدكتور جريس.. ولكن كما قلت بـ laquo;حياءraquo;، ولدى الوطنيّة العلمانيّة وحتى القوميّة منها. ممّا يولد تساؤلا شرعيّا لدى أبناء هذا التوأم الوطنيين منهم قبل الآخرين: إذا كان لا بدّ فلم الاقتصار على جانب؟!
الحل هو تعزيز التواصل الوطنيّ، فوجودنا في بلادنا، إن لم يكن الجسديّ، فعلى الأقل شكل هذا الوجود هو المهدّد من أعدائنا، فلا يعقل أن يكون مهددا كذلك من داخلنا بخلق الاغتراب فيما بيننا بأيدينا، اعتداءات وتغييب من ناحية وتقوقع من الأخرى.
مواطن وأركان قوتنا في الحفاظ على تعزيز شكل وجودنا المُهدّد تكون بتواصلنا اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا وخطابيّا، وفوق كلّ ذلك وطنيّا بتغليب المشترك بيننا.. فغير المشترك هو بيننا وبين الله وlaquo;الدين لله أما الوطن فللجميعraquo;، فلا يعقل أن نهدم كل ذلك بأيادينا. والمسؤوليّة تقع على كل التوائم، ولكنها أولا على عاتق التوأم الأكبر.
التعليقات