مالك التريكي

منذ أن انتخب ساركوزي رئيسا في فرنسا عام 2007 والتعليقات في هذه الزاوية تقول إن فوزه وفوز برلسكوني في إيطاليا وبوش في أمريكا هو أقوى الأدلة على غرابة أمر الديمقراطيات الغربية. فأن يبلغ الشذوذ ببعض الديمقراطيات حدا لا تعود ترى معه غضاضة في أن تأتمن أشخاصا عاديين جدا،
بل إنهم حتى دون مستوى المواطن العادي في بلدانهم، على مهمة إدارة الشأن العام وأمانة السهر على المصلحة العليا هو حالة من السلبية السياسية المفرطة أو العجز الديمقراطي (العجز بلغة الميزانيات)، أو التسلل ('الأوف سايد' بلغة كرة القدم) التاريخي الذي يؤخر المجتمعات المعنية تأخيرا ملموسا سواء على صعيد القيم المدنية أم على صعيد الحلول العملية. بل إنه أوف سايد تاريخي وعجز ديمقراطي يمتد ضرره إلى البلاد المحرومة من الديمقراطية أصلا، وعلى رأسها بلاد العرب، لأنه يسهّل لمن يناهضون الحكم الديمقراطي (إما لأسباب إيديولوجية جوهرانية تتعلق بالاعتقاد بأن للشعوب طبائع دائمة وأن للثقافات ماهيات ثابتة، أو لأسباب مصلحية تتعلق بالاستفادة الشخصية من الوضع التسلطي أو الدكتاتوري القائم) الزعم بأنه لا فرق في نهاية المطاف بين حرية الاختيار الديمقراطي واعتباطية الأمر الواقع الدكتاتوري إذا كانت الشعوب تبالغ في سوء الاختيار حتى لكأنها تتعمد تسجيل الأهداف ضد مرماها عمدا. ولهذا فقد لخصنا، بمناسبة فوز ساركوزي، غرابة أمر هذه الديمقراطيات بالتساؤل: كيف يمكن لديمقراطية يوجد فيها فارس من طراز دومنيك دوفيلبان أن تختار سوقيا من طينة ساركوزي؟ كيف يمكن لمجتمع سياسي ناضج أن يحبذ شعبوية التبسيط على وطنية التثقيف؟
وقد بلغ من اعتلال الديمقراطية في إيطاليا أن الكاتب الإيطالي روبرتو سوفيانو قد دعا إلى إخضاع انتخاباتها المحلية التي جرت أواخر الشهر الماضي للمراقبة الدولية! وربما لا يفاجأ المرء بهذه الصراحة الجارحة مع النفس إذا علم أن سوفيانو هو صاحب رواية 'غومورا' التي فضحت طرائق عمل المافيا في نابولي، حتى أنه اضطر منذ اشتهار أمر الكتاب، الذي اقتبس بعد ذلك في فيلم سينمائي، إلى التواري عن الأنظار والعيش تحت الحماية المتواصلة. وكأن الوقائع شاءت إبراز وجاهة دعوة سوفيانو، فإذا بحزب برلسكوني يفوز مرة أخرى (ليس هناك ما يبرر التفاؤل بإمكان أن تكون المرة الأخيرة) فوزا مؤزرا يكاد يقطع الأمل في قدرة إيطاليا على أن تصحو قريبا من هذه الغيبوبة الشعبوية التي طال أمدها. لكن إذا كان ما يقع ويتكرر في إيطاليا لا يزال يترك اللبيب حيران (حتى أن من الأصدقاء الإيطاليين في الوسطين الإعلامي والأكاديمي من يسرّ بأنه صار يشعر بالحرج أو الخجل عند ملاقاة الأجانب)، فإن ما وقع في الانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل حوالي عام ونصف العام، ثم في الانتخابات المحلية الفرنسية أواخر الشهر الماضي، يثبت مجددا حقيقة أن لدى الديمقراطية القدرة على تدارك أمرها وتفادي هلاكها، أي على إصلاح ذاتها بذاتها. فهي نظام اجتهادي لا يستطيع منع وقوع الأخطاء لكنه يوجب (وييسّر) التعلم من الأخطاء لأنه يسعى إلى ضمان صواب الاختيار وصحة القرار: نظام اجتهادي ليست لديه حصانة مطلقة ضد المنزلقات لكن اجتهاديته المؤسسية والإجرائية، أي عودته المستمرة (بل اليومية من خلال أدوات مثل الصحافة الحرة) على الذات بالنقد والإصلاح، تجعل التدارك والتصحيح أمرا في المتناول.
أما في أمريكا فقد كان التصحيح ذا أثر مشهود لأنه أتى بأفضل الموجود حين أحلّ أبلغ الرؤساء ثقافة وفصاحة منذ أوائل القرن العشرين محل أشد الرؤساء جهالة وضحالة منذ مولد الجمهورية الأمريكية. وأما في فرنسا فقد بدأ التصحيح (مجرد بداية) أواخر الشهر الماضي حين مني حزب ساركوزي بهزيمة لم يمن بها أي حزب حاكم طيلة تاريخ الجمهورية الخامسة. بحيث أصبح انهزامه في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2012، بل حتى عدم إعادة ترشحه، مسألة محتملة. هذا رغم أنه لطالما قيل إن هذا السياسي الشعبوي لا يغلب. وما هو، في الحقيقة، ذاك. وإنما هو رجل 'ذو حظ وقح' (أي حظ حسن إلى حد لا يصدق)، مثلما قال عنه السياسي العنصري جان ماري لوبان. وبما أن للحظ حدودا، فإن المسألة الأخرى المحتملة هي أن حزب ساركوزي قد لا يجد مناصا (بل ربما لن يتحرج) من التحالف مع حزب لوبان السيىء الذكر. ذلك أن العلامات تتزايد على أنه لم يبق أمام اليمين الشعبوي من خشبة نجاة انتخابية سوى اليمين المتطرف.