عبد الوهاب بدرخان


سيتاح لأوباما في هذين اليومين quot;النوويينquot; في واشنطن أن يتعرّف، أكثر، إلى شأن دولي آخر يتعلق بنظرة العالم إلى الولايات المتحدة، أي بصورتها التي يحاول جديّاً أن يغيّرها. قد لا يقول أحد من ضيوفه بلغة واضحة وعارية ما يفكر فيه ضمناً، لأنهم جميعاً يشاركونه القلق والخوف من أن تقع القدرة النووية في أيدي جماعات إرهابية، لكن الخوف الحقيقي الذي يسود العالم هو تحديداً من وجود تلك القدرة في أيدي الدول نفسها.

فالولايات المتحدة والقنبلة النووية صنوان، لأنها لا تزال حتى الآن الدولة الوحيدة التي استخدمت هذا السلاح، ولا تزال هيروشيما وناجازاكي شاهدتين على quot;نهاية التاريخquot;، أو quot;نهاية الحضارةquot;. إذ أن الإمبراطوريات سجلت مردود غزواتها العاتية هنا وهناك بقلاع وأبنية أو قصور باتت آثاراً يُحافظ عليها كعيّنات من إنجازات quot;حضاراتquot; سادت ثم بادت، أما المدينتان اليابانيتان فسجلتا quot;حضارةquot; الإبادة الكاملة التي توّجت ذروة ما توصل إليه الإنسان الحديث: التدمير الذاتي.
لعل النموذج quot;الحضاريquot; الذي اقترحه اكتشاف الذرة وتحولها إلى سلاح هو الأقرب إلى النموذج اللاحضاري الذي ابتدعه غزاة قدامى كالمغول الذين كانوا يقتلون بلا حساب ويحرقون الأخضر واليابس. فحيثما كانوا يمرون حرصوا على التدمير والمحق بحثاً عن معادلة quot;صفر مقاومةquot;، وحيثما مروا ثم رحلوا ظلت هناك حياة بعدهم. أما القنبلة الذرية فلا ترضى بأقل من quot;صفر حياةquot; وتبقى مفاعيلها لزمن طويل مهددة كل مظاهر الحياة لدى البشر من الحيوان والزرع وحتى الحجر.

قد يسمى ذلك ردعاً، بلغة العسكر، وقد يسمى حسماً للمعركة، أو تعبيراً وتوكيداً للتفوق الذي ما بعده تفوق، بشرياً على الأقل، لكن أيّاً من الأسماء لا يمكن أن يغطي حقيقة أن ارتكاب الفعل النووي هو quot;الإرهابquot;، بلغة اليوم. سيقال طبعاً إن هناك فارقاً، وإنه يجب التمييز بين quot;الدولةquot; وquot;العصابةquot;، وبين أهدافهما في استخدام العنف، وبين تقتيل للتقتيل وتقتيل لوقف التقتيل. بالتأكيد هناك فارق، غير أن ممارسات الدول -ولاسيما النووية منها- لا تنفك تفشل في وقف التقتيل، بل تستمر في الحضّ عليه.

ذاك أن الاستحواذ على السلاح الأعلى، على هذه quot;القنبلةquot;، بات منذ جريمة هيروشيما الوسيلة الوحيدة لفرض حقائق على الأرض بفعل القوة فقط وليس بالتفاعل الإنساني، السياسي والحضاري. وهذا ما تعنيه القنبلة الإسرائيلية منذ عقود. قنبلة مستخدمة لإدامة وجود المغول حيث هم، يتسلحون بها ليعيشوا وحدهم كما يرغبون وليفسدوا الحياة من حولهم، ليحموا الأرض التي سرقوها منذرين بمعادلة quot;صفر حياةquot; كلما شعروا بأن العالم يدنو من استحقاق محاسبتهم، أو حتى من عقلنة نازيتهم.

مؤتمر واشنطن يرمي إلى تعزيز مكافحة الإرهاب النووي وتركيزها. وهذا هدف لا خوف عليه. لكنه مؤتمر يريد أن يهدد لكبح طموحات إيران النووية، وكذلك تقييد القنبلة الكورية الشمالية إلى حد تفكيكها، فضلاً عن إقامة كل الحواجز الممكنة أمام الدول الطامحة، إلا أنه مؤتمر يطمح إلى إبقاء القنبلة الإسرائيلية مسكوتاً عنها ومحمية أميركيّاً وأوروبيّاً بلا أي جدل. فهذا الاستثناء لإسرائيل هو الوصفة الدائمة التي أفشلت ما يسمى quot;حظر الانتشارquot; وحولته إلى لغو بلا أي معنى.

مع افتراض أنه يمكن الوثوق بالدول الكبرى، المسلحة نوويّاً، إلا أن المفقود منذ زمن هو المصداقية. إذ أن quot;القنبلةquot;، بما هي quot;ردعquot; أو quot;حسمquot; أفسدت العقول السياسية عندما محقت العدالة الدولية وجعلتها ضحية أولى مؤكدة. quot;القنبلةquot; فرضت قانوناً غير مكتوب يجيز جرائم الحرب. قد تكون لدى أوباما، صاحب نوبل السلام قبل السلام، أحسن النيات لإحداث تغيير في quot;ثقافة الحربquot;، لكن الواقع الدولي الذي كان لأميركا الدور الأكبر في تشويهه يحتاج لأكثر من النيات الحسنة. فمكافحة الإرهاب النووي يجب أن تبدأ بمن يملكونه ويلوحون به قبل من يسعون إلى امتلاكه سواء كانوا دولاً أو عصابات.