خالص جلبي

أفول الحضارة الغربية حتمية، مثل دورة القمر، وسقوط الحجر، وخروج النبات والشجر، فمن بدأ انتهى، ومن ولد مات، وما جعلنا لبشر وحضارة وأمة ودولة من قبلك الخلد.
واشتهى آدم الخلود وملكا لا يبلى؛ فأكله الموت والبلى، والحضارة الغربية الحالية فيها من الأمراض والعلل ما تنوخ بثقله الجبال الراسيات، وهي في مرحلة المعاوضة دون السريرية، كما يعرف الأطباء ذلك، فإذا أصيبت الكلية بالفشل بال الإنسان حتى حين، ثم يصاب بالزرم (انحباس البول).
وقد نكون شهودا على تفسخ أمريكا الجبارة حاليا إلى عشرين دولة أو خمسين أو أكثر، وقد نرى بوش قبيح الذكر الذي ختم حكمه بصفعة من حذاء وهو يركب البسكليت، مثل عمال البنغال في الخليج!
فالقدر غلاب قاهر، والأيام دول، فلا يغتر أحد بملك وقوة، ومن سره زمن ساءته أزمان، وهذه الدنيا لا تبقى على أحد، ولا يدوم على حال لها شأن.
وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطوية بيمينه يوم القيامة السموات مطويات بيمينه..
ويقول الرب لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار.
وفي عام 1976 م خرج المؤرخ الفرنسي (إيمانويل تود Emmanuel Todd) على الناس بكتاب مثير يحمل عنوان (ما قبل السقوط) يتنبأ فيه بسقوط الاتحاد السوفيتي.
ثم فاجأ الناس بكتاب أشد إثارة عن (نعوة القوة العالمية الأمريكية)!.
وفي المقابلة التي أجرتها معه مجلة در شبيجل الألمانية في عددها 12 \2003 قال إن أمريكا تعاني من كل (الأعراض الوصفية) التي تسمى مرض انحدار القوى العظمى.
والدولار المريض لا يحميه اليوم من الإفلاس، إلا أنه عملة عالمية تُسَوِّقه اليابان والصين، فإذا نفضا أيديهما من الدولار المتسرطن تحول أهل فيرجينيا وبوسطن إلى مفلسين، كما رأينا في الإفلاس الكبير في أزمة الرهن العقاري عام 2008م، وما زال يضرب أمواجه على شكل تسونامي اقتصادي، بسبب الغش والأخلاقية الإجرامية وخلفها هوليوود.
وانتبه المؤرخ البريطاني (توينبي) إلى هذا التحول في مصير الأقلية (المبدعة) التي تبني الحضارة حينما تندفع الأكثرية خلفها بآلية (المحاكاة) لتنقلب بعد حين إلى أقلية مسيطرة تسوق الناس بالإكراه و(الكرباج).
ويذهب المؤرخ الأمريكي (باول كيندي) إلى تأكيد هذه الظاهرة في الانحدار الأمريكي، بأن كل القوى العظمى في القرون الخمسة الفارطة أصيبت بنفس المرض، ودلفت إلى نفس القبر والمقبرة بنفس العلة، وهي عدم التوافق بين الإمكانات والطموحات، بين فرط تقدير النفس وبين الكبرياء، بين ما تنتج وما تنفق، مما يدخلها في ظاهرة (فرط التمدد الاستعماري Expansion).
ولم يمر على أمريكا وقت كما هو حالياً تقاتل في كل جبهات الأرض بنفس الوقت، وتضع نفقات للتسلح والحروب يتجاوز مجموع العشر دول التالية لها في النفقات؛ فهي تدفع 329.1 مليار دولار لآلة الحرب مقابل روسيا 65 مليار والصين 47 واليابان 40.3 وبريطانيا 35.4 وفرنسا 33,6 وأقلهم ألمانيا وهي تنفق 27.5 مليار دولار.
وهي تذكر بنموذج ( دولة آشور) التي ماتت (مختنقة في الدرع) على حد تعبير (توينبي) فإحدى الكوارث العارمة التي أودت بأقوى دولة في غرب آسيا كانت حماقة الروح الحربية.
وهو ما يقوله (تود) إن أمريكا يحصل فيها تحلل داخلي ولا ينتخب معظم الناس وتحكمها تدريجياً قوة أولغاريكية عسكرية.
وهذا لا يعني أن المؤرخ ينطق حقائق نهائية، ولكنها مجموعة (الأعراض) و(العلامات) كما في الطب التشخيصي لتحديد علة الانهيار الإمبراطوري.
وهذا الكلام قد يرضينا نحن العرب الذين نعيش بين مطرقة الغول الأمريكي وسنديان الديكتاتوريات العربية، ولكن الرجل يذهب في تحليله إلى شرح تفصيلي للمرض الأمريكي الحالي، الذي يصيب بالوهن كل القوى العظمى؛ فيأتيها من حيث لم تحتسب؛ فيفل حدها؛ ويقلص ظلها، وتبدأ في التحلل الداخلي، دون أن تدرك أنها في طريقها إلى الوهط والقصور في الطاقة الإبداعية.
وفي القرآن فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي متين!
وأذكر جيدا من مالك بن نبي حين زار دمشق عام 1971 م قبل انتشار الطاعون البعثي وهلاك الناس أن سأله رجل عن الحضارة الغربية وهل هي حضارة؟
ثم قام السائل بإلقاء ما يشبه التصريح (Statement) بأنه ليس من حضارة إلا في ظل الإسلام، وأن الجاهلية هي لباس كل ما يسمى حضارة من يونان ورومان وإنجليز وطليان وألمان.
وبالطبع فهو ينقل من كتاب (معالم في الطريق) لسيد قطب، فالأخير رحمه الله شنقه عبد الناصر فدفعه إلى أعلى عليين، ونكس عبد الناصر فكتب في الأذلين، ورأى ذلك قبل موته بعينيه ذلا لا يرتفع من هزيمة جرت الويلات على العرب وما زال العرب يدفعون ديونها مع الفوائد المركبة.
في فصل الحضارة من كتاب معالم في الطريق قام بعرض فكرة لا يمكن وصفها إلا بكارثة، أن كل ما يسمى بالحضارات لا تزيد عن جاهليات، وتبعه في هذا أخوه محمد قطب فكتب كتابا بعنوان (جاهلية القرن العشرين) وهو جهل بالتاريخ والقرن والحضارة، كما أجاب مالك بن نبي يومها السائل أن الحضارة الإنسانية شيء والدين شيء آخر قد يجتمعان ويفترقان، فالحضارة كما وصفها أيضا المؤرخ ديورانت أنها نسيج اجتماعي من الإنجاز التكنولوجي والقانوني والثقافي صعب التركيب سهل التدمير، كما رأينا في مذابح البوسنة والشيشان وقرقيزيا والأرمن.
وذكر قطب أنه وضع بالأول كتاب نحو حضارة إسلامية، ثم قال إنه حين راجع نفسه شعر بأن جملة نحو مجتمع إسلامي كافية، وهي تتضمن الحضارة قطعاً، ونحن بالطبع لم نفهم من سيد قطب متى كانت الحضارة الإسلامية حسب مصطلحاته هل كانت مع السيف الأموي؟ أم الانهيار العباسي؟ أم حكم المماليك أيام شجرة الدر ردون درر، أم خيل المرابطين والمماليك البرجية والشراكسة؟ فكلها حكمت باسم الإسلام والسيف. كما قال ذلك رئيس الحرافيش والعيارين والزعر والبلطجية أبو ليث الصفار الذي ذكره الخاتمي المسكين المحبوس في إيران بدون تأشيرة خروج في كتابه الاستبداد في الدين والفكر.