فواز العلمي

الحمد لله أن عقلي البسيط لا يُمّيز بين الاختلاط (المُحرّم) والاختلاط (المُحّلل)، ولا يـُفرّق بين الخلوة (الشرعية) والخلوة (اللاشرعية).
ولعلي بذلك فقدتُ معنى إصرار بعض أصحاب الفتاوى على منع اختلاط رجالنا بنسائنا في جامعاتنا ومطاعمنا وفنادقنا وصالات الدرجة الأولى بمطاراتنا، لـُنفاجأ لاحقاً بعدم اهتمام أصحاب هذه الفتاوى بخلوة نسائنا مع السائق الخاص والبائع الأنيق والطبيب الحنون.
ونستغرب من غض أبصارهم على اختلاط بناتنا مع شباب العالم أجمع في جامعاتهم وفنادقهم ومطاعمهم ومسارحهم وجميع صالاتهم في مطاراتهم الدولية.
بينما كانت أوروبا تغطّ في ظلمات العصور الوسطى وتتصارع شعوبها على لقمة العيش بالنار والبارود، حملَ العلماء المسلمون شعلة العلم ومشعل الحضارة على مدى 600 سنة. كانت الدول الإسلامية تتسابق في إغداق مواردها على تطوير العلوم الإنسانية والطبيعية والهندسية والفلكية والطبية. في أوج الحضارة الإسلامية فاقت ميزانيات أبحاثنا 30 ضعف ما كانت تصرفه دول العالم بأسرها على الأبحاث في المجالات كافة، وأصبح عدد العلماء المسلمين 62 ضعف علماء الكرة الأرضية قاطبة، وفاقت مراجعهم العلمية والهندسية والفلكية والطبية 189 ضعف المراجع المؤلفة باللغات الأجنبية.
إلى قبيلة quot;كندةquot; التي استوطنت جنوب غرب quot;نجدquot;، انتسب quot;يعقوب بن إسحاق الكنديquot; المولود في عام 175هـ، وأتمّ حفظ القرآن في الخامسة عشرة من عمره. كان بإمكان quot;الكنديquot; أن يتوقف عند هذا الحد من العلم والمعرفة، لكنه آثر الانتقال إلى البصرة ليزيد من علمه علماً. بدأ quot;الكنديquot; رحلة كفاحه بدراسة quot;علم الكلامquot; الذي كان يـُضاهي quot;علم الفلسفةquot; عند اليونان، ثم انتقل إلى بغداد ليدرس في مكتبة quot;بيت الحكمةquot; التي أنشأها هارون الرشيد وازدهرت في عهد ابنه المأمون.
تعلم quot;الكنديquot; اليونانية والفارسية والهندية وتفوّق على أقرانه في إتقان اللغتين السريانية واليونانية بعد سنتين، وأنشأ في بيته مكتبة تـُضاهي في ضخامتها مكتبة quot;بيت الحكمةquot; الشهيرة بمراجعها، ليصبح منزله مقراً للبحث العلمي ومنبراً للفكر والابتكار في علوم الرياضيات، والفلك، والفيزياء، والطب، والصيدلة، والجغرافيا، والموسيقى.
من خلال البحث العلمي وضع quot;الكنديquot; منهجاً توفيقياً جديداً بين العلوم الدينية والدنيوية، واستعان بالرياضيات لتطوير السلم الموسيقي، ليضع أول سلم للموسيقى العربية.
وعندما توفي quot;الكنديquot; عن عمر يناهز الستين عاماً، ترك وراءه حوالي 300 كتاب ومرجع، من أهمها رسالته التعريفية بالنظرية النسبية، حيث اعتبر quot;الكنديquot; الوقت والفراغ والحركة والأجسام قيماً مطلقة نسبية لبعضها البعض كما هي نسبية لمشاهديها، وهذا ما اكتشفه لاحقاً العالم الألماني quot;ألبرت أينشتاينquot; بعد وفاة quot;الكنديquot; بألف عام، وحاز على جائزة نوبل في الفيزياء في عام 1921. وما زالت سيرة quot;الكنديquot; العطرة تفوح بين خـيرة علماء العالم لينهلوا من أبحاثه القيـّمة في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة، ولتمنحنا الأمـل بأن العلوم الدنيوية المقرونة بالعلوم الدينية أكـثر قدرة وأشد قوة على تخليد ذكر الإسلام في العالم. تشير الإحصائيات الأولية اليوم إلى وجود 976 عالماً عربياً مغترباً، سـاهموا جميعهم في نشر الإسـلام لبراعتهم في حل المعضلات الرياضية وكشف أسرار الكون واكتشاف الدواء وعـلاج المرضى. منهم 284 عالماً في الهندسة التطبيقية و179 في مجال الأحياء والزراعة و152 في مجال الطب و225 في العلوم التطبيقية والرياضيات و136 في العلوم الإدارية. كما تشير المعلومات المتوافرة إلى أن نسبة العقول العربية المشاركة في التقدم العلمي والطبي والتقني في الدول المتقدمة تصل إلى أكثر من 3% من مجموع علماء العالم في هذه المجالات.
أتمنى من علمائنا الأفاضل في العلوم الدينية أن يقتدوا بعلماء المسلمين أمثال quot;الكنديquot;، الذي كان يستحق أكثر من عشر جوائز quot;نوبلquot; في مختلف العلوم الإنسانية، والتقنية، والهندسية، والطبية، والموسيقية.
تصوّروا مدى الخير الذي سيعود علينا لو زرعنا في عقول أبنائنا مبادىء العلوم الإنسانية والهندسة التطبيقية والأبحاث الفلكية، إلى جانب مكارم الأخلاق وصدق النوايا وروعة الإتقان في أعمالنا ومواعيدنا وعهودنا.