صبحي حديدي
في كتابه الجديد 'قارىء حول القراءة'، الذي صدر قبل أيام عن منشورات جامعة ييل، يتابع الأرجنتيني ـ الكندي ألبرتو مانغويل حفرياته المعمقة في مفهوم القراءة، تاريخاً وذائقة وطبائع وملذات وعوائق وإشكاليات، فضلاً عن هوايته المفضّلة الدائمة: الذهاب أبعد وأعمق، ثمّ أطرف وأغرب، من المستويات المتعارف عليها لمفاهيم القراءة، فضلاً عن وظائفها وأنواعها وطرائقها. وهو يبدأ من سيرة طفولته الأولى، حين أُهدي كتاب 'أليس في بلاد العجائب'؛ ليمرّ على تجارب شتى في القراءات، ونماذج متنوّعة من السرد والشعر والمسرح؛ فلا ينتهي به المطاف عند حكاية النبي يونس في بطن الحوت، وأمثولة الثائر شي غيفارا وما إذا كان في وسعنا قراءة السياسة بوصفها طرازاً من الأدب؛ أو منافع قراءة وإعادة قراءة أمثال هوميروس ودانتي وشكسبير وفريد الدين العطار وسيرفانتس وإميلي دكنسون وجيمس جويس وبورخيس وصمويل بيكيت وهارولد بنتر ومحمود درويش، وسواهم.
ثمة فصل مدهش عن تاريخ الصفحة (التي يعتبرها مانغويل بمثابة 'هيكل عظمي يحفظ بشرة النصّ، ويتوجّب أن يختفي بموجب هذه الوظيفة تحديداً')، في المستويات التاريخية والمجازية والفيزيائية، منذ مكتبة بابل وحتى المكتبات الرقمية المعاصرة، عبر الرقيم أو ورقة البردي أو الرقعة الجلدية أو اللوح المعدني، وصولاً إلى الأصناف المعقدة من الورق المعاصر. ثمة، أيضاً، فصل لا يقلّ طرافة ومعرفة في آن، يقترح سلسلة من الإشارات على سبيل تعريف القارىء المثالي (كأن يكون ذاك الذي 'يحرف النصّ عن مساره، ولا يأخذ كلمة المؤلف على محمل التسليم'، أو 'لا يحصي البتة عدد الكتب التي قرأها'، أو يؤمن أنّ 'لكلّ كتاب، جيّد أو رديء، قارئ مثالي'، أو 'يقرأ كلّ كتاب وكأنّ مؤلفه مجهول الاسم'، أو 'يجد كلّ المتعة في استخدام المعجم أثناء القراءة'، أو لا يقاوم رغبة 'الخربشة' على هوامش الصفحة...).
لكنّ القراءة عند مانغويل هي فضاء أرضي أيضاً، وصلات وثيقة بين النصّ والمكان، إلى درجة أنّ بقعة الأرض يمكن أن تفقد تسميتها الجغرافية لصالح كاتب ارتبط بها، وارتبطت به، على نحو أو آخر. وهكذا، تصبح مدينة أوريغون عنده كناية عن أرسولا لوغوين، الكاتبة الأمريكية نجمة ستينيات القرن الماضي؛ وبراغ هي غوستاف ميرينك، الكاتب النمساوي الذي سكن فيها 20 سنة واستوحى مناخاتها في أبرز أعماله؛ وفينيسيا هي معشوقة الروائي الأمريكي هنري جيمس، حيث أنجز 'صورة سيدة'، وامتدح المدينة في سلسلة مقالات أخاذة؛ والجزائر هي رشيد بوجدرة، الروائي الجزائري الكبير، صاحب 'الحلزون العنيد' و'ألف عام وعام من الحنين'.
'قارىء حول القراءة' يذكّرنا، من جديد، بما صرنا نعرفه عن هذا الهوس الجميل بموضوعة تستولي على مانغويل منذ عقود، وتكاد أن تستغرق عمره بأسره، وتضيف المزيد الشيّق دائماً، المعرفيّ والموسوعي والمدهش، على عمله الشهير 'تاريخ القراءة'، 1996، فيتواصل امتـــزاج النقد بالتاريخ بالمتعة، وتسلّح المقاربة التعليمية البارعة بنزعة تذوّق ذاتية صرفة. لقد أصدر، على سبيل الأمثلة: 'المكتبة ليلاً'، 'ستيفنسون تحت أشجار النخيل'، 'صحبة بورخيس'، 'وداعاً همنغواي'، 'قاموس الأماكن المتخيَّلة'، 'بوّابات الفردوس: أنطولوجيا الرواية القصيرة الإيروتيكية'، 'مكتبة روبنسون كروزو'...
وفي ربيع 2001 أتيحت لي بهجة الإستماع إليه مباشرة، في المكتبة الأمريكية هنا في باريس، يحاضر عن كتابه الأحدث آنذاك: 'قراءة الصورة: تاريخ الحبّ والكراهية'. وذاك عمل يسعى إلى إنصاف الذائقة البصرية للمشاهد العادي الذي يهوى الفنون التشكيلية وأعمال النحت والفوتوغراف والعمارة، ولكنه مضطرّ للخضوع لبعض أنماط 'الإستبداد' التي تفرضها رطانة النقد ونظريات فلسفة الفنون. والكتاب يتضمن قراءات تنقّب عميقاً في باطن الصورة، أو المنحوتة أو النصب التذكاري، لكي تستخلص خطوط ترميز الصورة بوصفها حكاية، أو غياباً، أو أحجية، أو شاهداً، أو استيعاباً، أو انعكاساً، أو عنفاً، أو تهديماً، أو فلسفة، أو ذاكرة، أو مسرحاً...
الكتاب الثاني الجدير بالإشارة هنا، لأنه لا يقلّ إدهاشاً وطرافة وجدّة في آن معاً، هو 'مفكرة قراءة: تأملات قارىء شغوف حول سنة من الكتب'. وكما قد يوحي العنوان، يدوّن مانغويل وقائع قراءاته طيلة سنة كاملة، يوماً بيوم تقريباً، وأحياناً وقت الصباح والظهيرة والعشية والليل، ولكن ليس على النحو الطبيعي الذي قد يخطر على بالنا جميعاً: إنه لا يدوّن مذكرات حول ما قرأ أو يقرأ، بل حول نمط ـ ولعلّي أقول: حول نسق ـ محدّد فريد واستثنائي من القراءة. والأمر بدأ ذات يوم من عام 2002، حين كان مانغويل يعيد قراءة واحد من الكتب الكلاسيكية المفضّلة عنده، فاكتشف أنّ الكتاب يحمل الكثير من المغزى الراهن، ليس في ضوء الوقائع اليومية التي يعيشها مانغويل نفسه فحسب، بل بصدد الأحداث التي يشهدها البلد الذي يتحدّر منه مؤلف ذلك الكتاب، والعالم على نطاق واسع أيضاً.
وبين بياض الصفحة وسواد الحروف المطبوعة ثمة، في يقين مانغويل، 'فضاء وبرهة ولون، دائمة التبدّل، فيها يأنس الكاتب والقارىء استنارة ما، قبل أن يحترق المعنى في اللهيب'، أو تأتي عليه أنساق الجنون التي لا تكفّ عن اجتياح عصورنا. بذلك يصبح الأدب ملاذاً وحاضنة، أياً كانت أهواء التأويل وتقلبات المغزى، وتنقلب القراءة إلى علاج، ومتعة، وضرورة، وصيغة وجود، وفعل مقاومة.
التعليقات