رشيد الخيّون
قلبت ناظري فلم أجد جديداً ببغداد، سوى الدم القاني يسيل وquot;جراحات الضحايا فمquot;، وquot;دولة القانونquot; متشبثة برئاسة الوزارة، ليس مقابل quot;العراقيةquot; فحسب، وإنما في داخل ائتلاف الائتلافين، واتباعهما يشرئبون إلى لجنة الحكماء، أو أهل الحل والعقد، وهذا أيضاً مختلف عليه، ومن جهتها quot;العراقيةquot; متشبثة بحقها.
ولسكون الحوادث، ما عدا القتل والخلاف الذي يتسع، أحاول التذكير بتاريخ هذا المنصب، منذ وجدت حكومة ببغداد، فقبل العباسيين كانت عاصمتنا قُرىً امتداد لبابلَ، تتخللها أديرة وكنائس، أما أصل اسمها فمن صلة بابلية، لا مثلما فسرها المفسرون بصنم وصاحبه. لهذا حذرها الشاعر المطبوع مصطفى جمال الدين (ت 1997): quot;وحَذارِ أنْ تَثِقي برأيِ مؤرّخٍ.. للسيَّفِ ndash; لا لضميره- ما يَسطُرquot; (الديوان).
وعلى المتصدين لنَيل وزارتها أن يعودوا لمعنى ولفظ الوزارة: من الوزر، وهو ثقل تصريف أمور البلاد (الأحكام السلطانية)، ليس بينها ما يبرر منفعة حزب أو جماعة! والوزارة، حسب أهل الأحكام، الماوردي (ت 450 هـ)، والفرَّاء (ت 458 هـ)، على ضربين: التفويض والتنفيذ، والأخيرة يجوز عَقدها لغير المسلمين، ورئاسة الوزراء عندنا أقرب إلى التنفيذ، الذي لا يدخل فيه التشريع.
لم تعرف الوزارة إسلامياً قبل العباسيين، بل كان للخلفاء quot;أتباع وحاشية فإذا حدث أمر استشار بذوي الحِجاquot; (ابن الطقطقي، الفخري في الآداب السلطانية). كان أول وزير للعباسيين أبا سلمة الخلال، وهو الذي قام بأمر الخلافة وأجلس أبا العباس السَفَّاح (ت 136 هـ) على سدتها، حيث الكوفة، بعد أن عرضها على العلويين، ومنهم الإمام جعفر الصادق (ت 148 هـ) فرفضوها (نفسه). وإذا كان أول الخلفاء شيعياً فخاتمهم ابن العلقمي (ت 656 هـ) كان شيعياً أيضاً، وبينهما هناك من الشيعة أيضاً، ولي رأي بما نُسب لآخرهم من تهمة، تبسطت فيها كثيراً.
بعد الخَلال توزر للعباسيين حوالي ستة وسبعين وزيراً، ومن مراسم تعيينه يلبس السَّواد، اللون الرسمي، والوزير حينها بمثابة رئيس الوزراء، فهو يترأس الدواوين، ولكل ديوان وزير، وإن لم يُلقب بهذا اللقب. قُتل منهم أكثر من ستة عشر، وأحدهم حُبس في بئر ظلماء، وهو يعقوب بن داوود، ونُكب لعدم حرصه على أمر المهدي (ت 169 هـ) بأحد الخارجين، وبعد سنوات أخرجه الرشيد وأكرمه.
أغلب الوزراء كانوا من الكُتاب، أو المحاسبين الجباة، أو الحِجاب، أو ندماء الخلفاء قبل الخلافة، ومن بينهم الخطاط الشهير ابن مَقُلَة (قُتل 328 هـ).
انقطعت الوزارة مع البويهيين (333 -447 هـ)، حيث صار الوزير خاضعاً لأمير الأمراء، وأمست الوزارة لآل بويه لا للخلفاء، وبرز فيها ابن عبَّاد، وابن العميد، وخصهما التوحيدي(ت 414 هـ) بدمغة الدهر quot;مثالب الوزيرينquot;! كما ظلت وظيفة دنيا مع السلاجقة أيضاً (منذ 447 هـ)، فوزراء السلطان هم المتنفذون، وأشهرهم نِظام المُلك (اغتيل 485 هـ). ومن الوزراء مَنْ عزل نفسه بسبب مرض الكآبة، مثل وزير المأمون (ت 218 هـ) الحسن بن سهل. وأن عبد الملك بن الزَّيات قضى نحبه داخل تنور. وقتل وزير النَّاصر لدين الله (ت 622 هـ) ابن العطار وسُحل بطرقات بغداد. وبعد حين سحل نوري السعيد (1958)، الذي توزر أربع عشرة مرة.
هناك أُسر تداول أبناؤها منصب الوزارة، مثل آل وهب، فقيل بأحدهم: quot;يا وزير ابن وزير ابـ.. ن وزير ابن وزيرquot; (الفخري). ووزراء نُكبوا وأعيدوا للوزارة أكثر من مرة، حتى قتلوا بالثالثة مثل ابن الفرات (قتل 312 هـ)، وسبق أن كتبتُ عن وزاراته الثلاث ونكباته الثلاث. وإذا عُرف لابن الفرات الإسراع بتبادل الأسرى مع الروم وعقد المصالحة بعد ثورة ابن المعتز، فيحسب لابن جهير (ت 438 هـ) وزير القائم بأمر الله، تدبير الأمر مع جوار الخلافة بالحكمة والصِلات، حتى سمي quot;من عُقلاء الرِّجال ودهاتهمquot; (نفسه). وما أحوج العراق، في هذه اللحظة، لمثل هذه الوزارة.
قلة من هؤلاء الوزراء ماتوا وهم في المنصب، أو عُزلوا بلا نكبة، ومصادرة، وإن وزيراً واحداً، من هذا العدد، تمكن من الحج وهو في الوزارة.
ليس قليل مَنْ نُصب وزيراً من غير مذهب الدولة، وكان الوزير الفضل بن سهل (اغتيل 202 هـ) وراء حث المأمون على إسداء ولاية العهد للإمام علي بن موسى الرضا (الفخري). وربما أكثر فترات الوزراء فتناً وفساداً كانت وزارة ابن البريدي الذي فتح باب الوزارة لأخوته واسعاً، فكانوا quot;أشد على العراق من ألد أعدائهquot; (التنوخي، الفرج بعد الشدة). حتى هجاه صاحب الأغاني أبو فرج الأصفهاني (ت 356 هـ): quot;يا سماء أسقطي ويا أرض ميدي.. قد تولى الوزارة ابن البريديquot;!
لم يبق من هذا العدد الكبير من وزراء بغداد سوى اسم البرامكة، فالعراقيون مازالوا يصفون الكريم بالبرمكي، وليحيى البرمكي قال الشاعر: quot;لو يَمسُّ البخيلُ راحةَ يحيى... لسخت كَفَّه ببذل النَّوالquot; (الجهشياري، الوزراء والكتاب).
لم تعرف بغداد منصب رئاسة الوزارة، بعد العباسيين، حتى العهد البريطاني ثم الملكي (1920)، فحُكام بغداد كانوا نواباً لأمراء المغول، ثم الدول التركمانية، فالعثمانيون، وأحياناً يسمى والي بغداد وزير العراق، وهي رتبته الشخصية. وبعد العثمانيين تولى أمر وزارة العراق، الملكي والجمهوري، اثنان وثلاثون رئيساً، وبعد أيام من العهد البعثي (1968) أُلغيت رئاسة الوزارة، وظل الحال كما هو عليه حتى 1991 فأُعيدت لمُديدةٍ ثم أُلغيت.
تولى من هذا العدد اثنان من معتمري العمائم: عبد الرحمن الكيلاني، ومحمد الصدر، وقُتل من الاثنين والثلاثين أربعة: جعفر العسكري، نوري السعيد، عبد الكريم قاسم، عبد الرزاق النَّايف، وانتحر عبد المحسن السعدون (1929)، ونفي ياسين الهاشمي، وسجن عبد الوهاب مرجان، وتوفيق السويدي (1958). بينما نجا حكمت سليمان (1939) ومحمد فاضل الجمالي، ورشيد عالي الكيلاني، ومختار بابان (1958) من الإعدام. وعُذب اثنان أشد التعذيب: طاهر يحيى، وعبد الرحمن البزاز، والأخير أستاذ قانون والمدني الفريد من رؤساء وزراء العهد الجمهوري. وتوفي محمد حمزة الزبيدي بسجون الأميركان.
على أية حال، أضع هذا التاريخ أمام مَنْ يربح الوزارة، لعلَّه يقرأ سيرة ابن جهير، ويُحسن الأحوال مع الجوار، ويبتعد عن سيرة آل البريدي لعصبة حزب أو أسرة، وألا تكون أيامه كما قيل، حقاً أم باطلاً، بالوزير ابن النَّاقد: quot;أيامه مثلُ شهرِ الصَّومِ خاليةٌ.. من المعاصي وفيها الجوعُ والعطشُquot;!
التعليقات