يوسف نور عوض


بعد إجراء الانتخابات السودانية الأخيرة، بدأ، المواطنون، في السودان يتطلعون، إلى حدث مهم قد يتوقف عليه مستقبل البلاد، بأسرها، هذا الحدث هو استفتاء جنوب السودان الذي سيجرى في، شهر كانون الثاني/ يناير من العام المقبل، وسيكون هذا الاستفتاء، خيارا يقرر فيه الشعب في جنوب السودان ما إذا كان يريد الوحدة أو الانفصال، لكن السياسيين في الإقليمين الشمالي والجنوبي يسبقون الأحداث، بتصريحات تعبر عن مواقفهم الشخصية، ومع ذلك فهي، تصريحات تبين صورة الموقف المعقدة قبل إجراء الاستفتاء، فمن ناحية قال الرئيس السوداني عمر حسن البشير إن الاستفتاء خيار الشعب الجنوبي، ودعا الجنوبيين، إلى المحافظة على وحدة البلاد، وأما، نائب رئيس الجمهورية ورئيس حكومة الجنوب سلفا كير فقد قال لو أتيح لي، أن أدلي بصوتي فسوف ألقي ببطاقتي في صندوق الوحدة. والسؤال هو، هل تمثل هذه الأماني حقيقة الموقف في جنوب السودان؟
هناك بكل تأكيد تيار في جنوب السودان يشكك في نوايا الحزب الوطني الحاكم ويرى أنه يعمل من أجل تعطيل عملية الاستفتاء من خلال إثارة المشاكل وتخريب الأمن في جنوب السودان، وفي الوقت ذاته أعلن باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية خطة من خمسة محاور آخرها إعلان استقلال جنوب السودان من داخل البرلمان، كما أعلن إغلاق، الحركة الشعبية جميع منافذ الاتصال مع الجنرال المنشق جورج أتور، وقال باقان إن الحركة الشعبية متيقظة لما سماه تحركات الحزب الوطني، وقد وضعت خططا أمنية متكاملة لمواجهة كل ما يرسمه الحزب بشأن مستقبل الجنوب، أما المحاور الخمسة التي أشار إليها فهي ذات طبيعة، سياسية ودبلوماسية وأمنية وجماهيرية وتشريعية. وأكد أموم أن الحركة الشعبية قادرة على مواجهة كل مخططات المؤتمر الوطني.
ويبدو مما قاله الأمين العام للحركة الشعبية أن الحركة قد بدأت، تسير في اتجاه غير ما تهدف إليه حكومة الشمال وغير ما ورد في حديث رئيسها سلفا كير.
من جانب آخر قال ممثل حكومة الجنوب في مصر إن الجنوب لن يقيم علاقات مع أي نظام ظالم في العالم في إشارة منه إلى دولة إسرائيل محاولا أن ينفي بذلك اتهامات المؤتمر الوطني للحركة الشعبية بأنها تقيم اتصالات مع هذه الدولة، وقال الممثل، إن الهدف من مثل هذه الاتهامات هو تخويف العرب من الاستثمار في جنوب السودان، وذلك بحسب زعمه من الأهداف التي تسعى إليها حكومة الشمال، وقال 'روبن مريال بنجامين'، إن حكومة الرئيس البشير في الشمال تدفع الجنوبيين إلى تبني خيار الانفصال، وقال إن اتفاقية نيفاشا دعت إلى تحقيق وحدة جاذبة بين الشمال والجنوب، وكان من الممكن تحقيق ذلك لو أن الشمال ركز على تنمية الجنوب، وذلك ما لم تفعله حكومة الخرطوم بحسب زعمه، وقال إن دعوة الانفصال لا تتركز في جنوب البلاد، بل هناك كثير من الانفصاليين في الشمال الذين يسيطرون على الجيش والأمن والاقتصاد وهم يريدون التخلص من الجنوب بشكل كامل من أجل تنفيذ برنامجهم، الأصولي في الشمال. وقال بنيامين إن هؤلاء يثيرون الخوف الآن في قلوب المصريين بأن استقلال جنوب السودان ستكون له تأثيرات على مياه النيل، وقال إن ذلك ليس صحيحا لأن جنوب السودان ليس بحاجة إلى مياه النيل وإن علاقاته مع مصر في حالة الانفصال ستكون أفضل بكثير.
ويبدو أن هناك بعض الشماليين يؤيدون بعض هذه، الآراء التي ذكرها بنجامين ويرون أن حكومة البشير تسعى لما سموه أفضل خيار وهو الانفصال الآمن والسلمي لجنوب السودان، ويرى هؤلاء أنه في حال انفصال جنوب السودان فإن حكومة الخرطوم ستغير عباءتها لتصبح نظاما طالبانيا بحسب رأي الصحافي الحاج وراق الذي طالب مصر بأن توقف دعمها للنظام في الخرطوم.
وأما الزبير أحمد الحسن وزير الطاقة فقد انتقد من جانبه تصريحات المسؤول الجنوبي مارتن ماجوت ياك الذي قال إن الانفصال قادم، وإذا تحقق فلن يعطي الجنوب الشمال غالونا واحدا من البنزين. وقال الوزير إذا كان ذلك موقف الجنوبيين فإن الشمال أيضا لن يسمح بمرور غالون واحد من النفط للتصدير، مشيرا إلى أن المتطرفين موجودون في جنوب السودان وشماله.
وإذا نظرنا إلى كل الحوارات التي تنطلق من الجانبين تأكد لنا أن الانفصال لن يغير فقط خريطة السودان، بل قد ينذر بحالة عداء مستحكم بين الشمال والجنوب، وهنا لا بد أن نتساءل ما الذي يفرض انفصال الإقليمين هل هو فقط طموح النخب من أجل السيطرة أم أن هناك ضرورات تلزم بانفصال جنوب السودان؟
لا ننسى هنا، حالة العداء التي كانت سائدة خلال مرحلة التمرد الذي أعقب الاستقلال، ولا شك أن الخطأ كان من الجانبين، خطأ حمل السلاح الذي أدى إلى مواجهات وضحايا لم يكن ثمة ما يدعو للتضحية بهم، ذلك أن مشكلة جنوب السودان التي بدأت مع نيل البلاد استقلالها وتخوف الجنوبيين من استلام الشماليين السلطة، كان من الممكن تفاديها، إلا أن إساءة التصرف من الجانبين هو الذي جعل هذه المشكلة تتصاعد ويروح فيها كثير من الضحايا، ولكن برغم ذلك فإن هذا التاريخ القديم يجب ألا يكون سببا للانفصال ذلك أن، الانفصال ستكون له نتائج خطيرة على الجانبين، فمن ناحية سيوجد، الانفصال حالة عداء بين شمال السودان وجنوبه، وبما أن دولة جنوب السودان في حال استقلالها، لن يكون لها منفذ إلى الخارج سوى، شمال السودان، فهي ستواجه صعوبات بالغة ما يجعلها ترتد إلى دول أفريقيا التي تقع جنوبها، وهنا قد تواجه مصاعب جمة، إلا أن، ذلك لا يعني أن الذي سيواجه المشاكل هو الجنوب وحده بل أيضا الشمال فقد، رأينا بعد توقيع نيفاشا أن قوى في شمال السودان بدأت تتمرد أيضا كما هو الشأن في دارفور التي لن تتردد في المطالبة باستقلالها، وإذا تم ذلك فستواجه دارفور، مشكلات لا تقل صعوبة عن مشكلات جنوب السودان بكون إقليم دارفور إقليما مغلقا وليست له منافذ خارجية مباشرة، وقد يؤدي انفصاله إلى حركات تمرد أخرى تمزق البلاد وتجعلها مسرحا للصراعات الإقليمية والجهوية.
ولا نقلل مع ذلك من أهمية ما يثيره الجنوبيون من خوف على مستقبلهم في إطار وحدة غير جاذبة، ذلك أن الجنوبيين يعتقدون أن النظام السائد في شمال السودان نظام أصولي من الناحية النظرية وهو قد لا يكون متلائما مع واقع الجنوب الذي وإن وجدت فيه نسبة كبيرة من المواطنين الذين اعتنقوا الإسلام، فإن الغالبية العظمى من السكان من المسيحيين او أصحاب الديانات المحلية التي لا ترى أن هناك أرضية مشتركة بينها وبين النظام القائم في الشمال.
وعلى الرغم من أن النظام حاول من خلال الانتخابات الأخيرة أن يظهر وكأنه نظام منفتح على الآخرين فالحقيقة هي أن الانتخابات لم تكن أكثر من تفويض شكلي للاستمرار بنظام الحكم القائم بأسس ديمقراطية قد لا تصمد أمام المعايير الديمقراطية السليمة. ودون الدخول في تعقيدات هذا الموقف، نقول، إن الزمن لم يعد يسعف الكثيرين، إذ لم تعد أمام الاستفتاء المرتقب سوى عدة أشهر وهي فترة قصيرة في عمر الزمن لمواجهة الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها السودان، وتشير الدلائل كلها على أن الأمر لن ينتهي عند النوايا الطيبة التي يظهرها بعض السياسيين بدعوتهم إلى ما يسمونه الوحدة الجاذبة، إذ الحقيقة هي أن الوحدة لن تكون جاذبة خلال هذه المرحلة القصيرة، والمطلوب الآن، أن يتولد تفكير نظري سليم عند الجانبين، وهو من وجهة نظري تفكير يحافظ على وحدة البلاد ليس من منطلق الإبقاء على الوضع القائم بل من إدراك لأن التقسيم سينهي وجود الدولة وسيوجد مشكلات للأقاليم المنفصلة.