حسن عزالدين

ثمة مفارقتان مترابطتان تميّزان ساحة العمل السياسي في لبنان حاليا، وكلاهما تعكسان واقع الحال المأساوي الذي يأبى أن يتطور نحو الأفضل، رغم الادعاءات المتكررة الصادرة دائما عن طرفي الساحة المذكورة.

والمقصود بهذا الكلام نقيضا الحركة الفكرية laquo;الوطنيةraquo; المنقسمان حتما في التكتيك والاستراتيجية، والمتمترسان حول طرفين رئيسيين: الأول الذي يسمو بفكرة المقاومة المسلحة ضد إسرائيل باعتبارها وسيلة أساسية لتحقيق السيادة والاستقلال، والثاني الذي يصر على اعتبارها نقطة ضعف لن تجلب إلى لبنان سوى الخراب والدمار.

وفي خضم هذا التباعد الخطير في ملامسة مفهومي السيادة والاستقلال، برزت في الآونة الأخيرة مفاهيم أخرى تبدو أخطر في ما يخص ممارسة العمل السياسي، لأنها أعادت مجددا إلى الواجهة تفاصيل ذلك الصدام المبطّن بغلاف ديمقراطي، لكن المليء بكثير من الأخطاء وربما الأحقاد.

ولعل السجال الذي شهدناه ارتباطا بالذكرى العاشرة لتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي، هو أبرز أشكال تلك المفاهيم التي أعتقد بضرورة لجمها، وذلك لاعتبارات كثيرة سأحاول الإضاءة عليها.

فالاختلاف في لبنان سمة ثابتة لا يمكن لأحد أن يمحوها من الذاكرة أو الوجدان، وهو سيبقى على ثباته في الحياة السياسية الركيكة والهشة، طالما أن اللعبة القائمة والأدوار المرتبطة بها يعتمدان أساسا على إشكالية الانتماء الطائفي والمذهبي، لا على أسس العمل السياسي الديمقراطي الصحيح المتعارف عليه في معظم أنحاء العالم الحر.

لقد أخطأ طرفا النقيض السياسي في ما يخص تصوّرهما حول بعض المفاهيم، لا سيما ما يتعلق منها بكيفية التصريح والتعليق وما شابهه. فلا سمير جعجع كان محقا في توجيه اللوم إلى رئيس الجمهورية في ما يخص ملاحظاته حول المقاومة ودورها الهام في تاريخ لبنان، ولا الأطراف الأخرى التي تحدّثت لاحقا قد أفلحت في التصدي لأفكاره وتفنيدها بالشكل الديمقراطي الملائم.

وفي هذا السياق قد يكون من الضروري لفت نظر جميع مناصري التيارات السياسية على اختلاف أطيافها، إلى أن رئيس الجمهورية اللبنانية ليس دمية (ولا يجب حتما أن يكون كذلك) لكي يُؤخذ عليه هذا التصريح أو ذاك، أو أن يُلزم بما يجب عليه أن يقول في هذه المناسبة أو تلك.

ولا يحق لأحد بالتالي أن ينطلق من مفهوم laquo;التوافقraquo;، ليحاول محاصرته ومنعه من التعبير عن مكنونات نفسه، مهما كان محرِجا أو ربما جريئا في انحيازه لفكرة سياسية معيّنة. أما إذا أصر أي طرف على توجيه النقد لسبب ما، فليكن ذلك بأسلوب ديمقراطي راقٍ يضع النقاط على الحروف ويفنّد أسبابه وحيثياته، دون الغوص في غياهب التحجيم أو التهوين.

لكن، في المقابل، يجب علينا الاعتراف بحق الأطراف كافة في ممارسة العمل السياسي، وبالتالي التعبير عن آرائها بكل ديمقراطية. وهذا أمر مهم للغاية، لأن الهدف هو ممارسة laquo;الديمقراطيةraquo; بالطريقة الصحيحة، وتحصينها لكي تتمكن من البقاء والاستمرار في أجواء laquo;الحريةraquo; الواسعة التي ينعم بها اللبنانيون.

وبالتأكيد، فإن السماح للطرف الآخر بممارسة دوره الديمقراطي، يعني بلا شك الاستماع لرأيه، ومجادلته بالحسنى كلما كان ذلك ضروريا، وإذا كان مطلوبا انتقاده فبالحسنى أيضا، أو بالحزم لكن من خلال اتقان فن الحوار، دون اللجوء إلى التكتيكات البالية التي عفى عليها الزمن، مثل إطلاق تهمة الخيانة وما شابهها.

وأعتقد أن الرأي العام اللبناني ليس بحاجة إلى مزيد من التعبئة لكي ينقسم على نفسه، وهو قد أصبح على درجة كافية من الوعي لكي يميّز laquo;الوطنيraquo; من laquo;الخائنraquo;، كما أنه ملّ من هذا التقليد الذي لم يعد يقدّم جديدا على صعيد فن الحوار والتخاطب، ولا حتى على صعيد تثبيت الانتماء الوطني لهذا الطرف أو نفيه عن ذاك.

ولعلني لا أخفي سرا إن قلت ان لبنان، في خضم تقاسم أبنائه للكراهية المشتركة والانقسام على الأهداف الاستراتيجية، هو في أمس الحاجة إلى قواسم تعيد جمع أطراف المجتمع وتبني فيهم جسور الثقة المقطّعة، وتؤسس لمرحلة جديدة يكون عمادها الانتماء الوطني الجامع، لا الانتماء الطائفي أو المذهبي.

ومع أنني غير متفائل كثيرا باحتمال حدوث ذلك، إلا أن المحاولات التي تجري بين وقت وآخر من خلال طاولة الحوار الوطني، قد تكون مقدّمة لفتح كوة ضيقة في جدار الأزمة المتفشية، رغم وجود ملاحظات كثيرة على طريقة إدارة الحوار المذكور والأطراف المشاركة فيه، المنطلقة أصلا من منابع طائفية متنوعة.

إن الوضع آنف الذكر ينعكس بلا شك على مختلف قطاعات الحياة في لبنان، لا سيما تلك المرتبطة بالعمل السياسي التنفيذي، وقد شاهدنا مؤخرا من بدأ يسعى فعليا لتكريس مبدأ الانقسام، انطلاقا من اعتبارات ضيقة الأفق لا يجب السماح لها بالنمو والتطور. فالمرحلة الحالية تحتاج لأوسع قدر ممكن من التضامن، واحتضان العمل التنفيذي الذي يلامس الطموحات اليومية للناس.

وإذا كانت المنطقة تقف اليوم قاب قوسين أو أدنى من احتمال اندلاع مواجهة شاملة، أو ربما من استحقاقات مختلفة تماما، فإن أبرز ما يكون مطلوبا على صعيد الأداء السياسي الداخلي، هو تحقيق تفاهم معين ومقبول حول سلّة متكاملة من الأهداف، يأتي في مقدّمتها تأمين الرفاهية للشعب والحفاظ على الحرية والسيادة والاستقلال.

قد تختلف المفاهيم بلا شك..

فهذا أمر طبيعي في بلد تبنّى الديمقراطية ودافع عنها. أما الأهداف، فيجب العمل من أجل صقلها جيدا، وإقناع laquo;أغلبيةraquo; الشعب بتبنّيها والعمل من أجل تحقيقها. وكما قال السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير laquo;لا يوجد إجماع حول أي شيء في لبنان، هناك أغلبية مع أو أغلبية ضد.. والفائز هو من سيحظى بتلك الأغلبيةraquo;.