أنور عقل ضو

..غالباً ما تسوِّغ الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها اختيار أدواتها لمواجهة من ترى فيهم خصوماً وأعداء، أو حتى quot;مشاغبينquot; يسعون إلى تهديد نفوذها ومصالحها في الشرق الأوسط، ودائماً من خاصرة إسرائيل، دون مراعاة وجع مليون ونصف المليون عربي محاصرين في قطاع غزة، لكنها هذه المرة وجدت ضالتها في رجل الدين التركي المعروف فتح الله غولين المقيم منذ اثني عشر عاماً في الولايات المتحدة، الذي خرق الإجماع التركي على إدانة إسرائيل، بانتقاده تسيير قافلة quot;أسطول الحريةquot; إلى غزة دون أخذ إذن من إسرائيل، قائلا انه كان يجب أن يحصلوا على موافقة إسرائيل أولا؟!

موقف غولين هذا، تزامن مع اتساع حملة تشديد الطوق على إسرائيل لمحاكمتها على جريمتها ضد quot;أسطول الحريةquot; وقتل تسعة ناشطين أتراك وجرح العشرات وتعرض معظمهم للتعذيب، وخصوصاً أن أصداء هذه الجريمة المدوية ما زال يتردد حتى الآن في تركيا، كما أن غولين لم يبدِ تضامناً معنوياً يوازي على الاقل الأدلة الجرمية التي تحدث عنها رئيس هيئة الطب العدلي التركي خلوق اينجه، عندما أعلن انه طوال مهنته منذ عشرين عاماً لم ير مثيلاً لهذه الجروح التي أصيب بها الجرحى الأتراك، فيما أكد نائب رئيس الحكومة جميل تشيتشيك انه زار واردوغان الجرحى في المستشفيات ان quot;ما رأيناه وما رواه الجرحى لا يمكن أن تقبله الإنسانية ...quot;.

تعرف إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية أن تركيا ماضية في فتح دعوى حول التجاوزات الإسرائيلية وتوجيه الاتهام إلى قادة إسرائيل، وعلى رأسهم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع ايهود باراك ورئيس الأركان غابي اشكينازي، ولعل الموقف الأخير لرئيس الحكومة اردوغان من أن غزة بالنسبة إلينا قضية تاريخية، وسنكون حازمين حتى رفع الحصار عنها ووقف المجازر والاقرار بحصول ارهاب دولة في الشرق الاوسط، بات مصدر قلق لإسرائيل وإن كانت تدرك أن ليس ثمة مفاعيل جدية لأية محاكمة متوقعة أو مفترضة، لكنها ترى في التصويب عليها عبر القضاء الدولي إحراجاً لحلفائها ولا سيما الأوروبيين.

من هنا تولي كل من الولايات المتحدة وإسرائيل اهتماماً بمواقف فتح الله غولين، فهو أحد أبرز الرافضين لنظام الوصاية العسكرية التي كانت متمثلة بمؤسسة الجيش وسائر والأحزاب العلمانية. وكانت توجه لمعظم الضباط الذين كانوا يطردون من الجيش تهمة الأصولية والانتماء إلى جماعته التي هي إحدى الفرق التي تفرعت من حركة quot;النورquot; ويعتبر المفكر التركي الراحل سعيدي نورسي أحد أبرز المنظرين لها.

غادر غولين تركيا عقب الإطاحة برئيس الحكومة السابق نجم الدين اربكان عام 1998 خوفاً من أن تطاله القوى العسكرية وتلقي به السجن، وما لبث القضاء التركي أن فتح أكثر من دعوى ضده، وتمت تبرئته منها نهائياً في عهد حزب العدالة والتنمية، وقد وقف غولين في الانتخابات النيابية التي جرت عامي 2002 و 2007 إلى جانب حزب العدالة والتنمية ما منح الحزب قوة إضافية مهمة جداً.

لذا كان انتقاد غولين لهيئة الحقوق والحريات الإنسانية مثار اهتمام الجميع، لأن هذه الهيئة تحظى بتأييد الحكومة وحزب العدالة والتنمية، ما شرع الباب أمام تأويلات كثيرة عما إذا كان دعم غولين لحزب العدالة والتنمية قد انتهى، وما إذا كان لهذا الموقف علاقة بضغوط أمريكية على غولين لمواجهة انتقادات رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان للإدارة الأمريكية التي لم تدن إسرائيل رغم كل الجهود الذي بذلها اردوغان ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو لدى الإدارة الأمريكية. وبالتالي ما إذا كان لهذه الانتقادات علاقة بتغييرات ما يريد البعض إحداثها داخل تركيا لغير مصلحة اردوغان وحزبه.

من هنا، كان ثمة ترقب لمعرفة الرأي العام حجم رد فعل حزب العدالة والتنمية، إلى أن صدر موقفان لا يقطعان مع غولين، الأول من وزير الدولة فاروق تشيليك حين اعتبر ان الخدمات التي تقدمها هيئة الحق والحريات الإنسانية هي الوجه الآخر للخدمات التي تقدمها مؤسسات فتح الله غولين، ولذا يجب ألا يسعى البعض لاجتزاء جملة من حديث لغولين من اجل تشويه سمعته وسمعة مؤسساته، خصوصاً أننا لا نعرف موقع جملته هذه من حديثه، وما هو السؤال الذي وجه إليه.

فيما جاء التعليق الثاني على لسان بولنت ارينتش، نائب رئيس الحكومة والرجل القوي في حزب العدالة والتنمية الذي يدرك جيداً غولين وحساسيات الصراع بينه وبين اربكان، فضلاً عن أن ارينتش يعتبر رفيقاً وثيق الصلة بأربكان، وهو أول من أدرك خطورة ما يمكن أن يكون خلف موقف غولين.

قد لا تتضح في المدى القريب طبيعة هذا النزاع وآفاقه المتوارية، لكن ما هو مؤكد وسط كل هذه المؤشرات، أن الولايات المتحدة تسعى مع اللوبي الصهيوني المتحكم بمفاصل مهم في مواقع القرار الأمريكي، لاستعادة تركيا إلى كنفها، وهذا غير ممكن إلا من خلال تغيير الخارطة السياسية التركية واللعب على تناقضات داخلية، إلا أن حزب العدالة والتنمية بدا مدركاً لما يُحاك في أروقة السياسة الأمركية فجاء رد فعله مهادناً.

هنا، يخطئ من يظن أن غولين مجرد تفصيل في المشهد التركي، وخصوصاً أن سطوع نجم أردوغان لا يمكن أن يخفت بريقه إلا بافتعال أحداث داخلية، ما يبقي الخوف على تركيا ماثلاً من حاضرة الوجع المقيم في غزة.