يوسف الحسن

آن الأوان، بعد مرور أكثر من عامين على طرح سؤال الهوية الوطنية، أن نتجاوز الحالة الوجدانية أو العاطفية التي نطرح فيها هذا السؤال، إلى حالة الوعي العقلي بالذات والإدراك التاريخي لها .

ويتطلب هذا الوعي الجمعي بالذات، مقاربات عميقة، لها أبعادها، وحقولها المعرفية، ومجالاتها التاريخية، ومضامينها الفكرية والثقافية، وموروثاتها المتنوعة، كما تحمل في طياتها عناصر ثابتة وأخرى متجددة ومتغيرة . وغالباً ما تخضع هذه العناصر للفحص والتدقيق، وإعادة الترتيب والهيكلة، خاصة في مجتمع مثل مجتمعنا، يتعرض لاختبارات عسيرة في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية . فضلاً عن الفضاء الديمغرافي الداهم .

وجميعها عوامل تستثير سؤال الهوية، وتكشف عن حاجة ماسة استراتيجية، لإحداث توازن داخل الوعي الفردي والجمعي، ربما يعزز الدفاعات الذاتية، واستجاباتها الفاعلة للتعامل مع ايقاع الضغوط التي تفرضها متغيرات الحداثة، وتداعيات الفضاءات والحدود المفتوحة، وأنماط التنمية أو النماء السريع في أزمنة العولمة .

* إن الهوية الوطنية، مسألة أساسية للمشروع الحضاري المستقبلي للدولة، ومن دونها يفقد المجتمع جوهره، وتضيع البوصلة من بين يديه، وعلى سبيل المثال، فإن البرازيل حينما أفاقت على مسألة الهوية، فإنها لم تشكلها على أساس وحدة العرق أو اللغة الأصلية، وإنما على أسس أخرى، تم خلالها بلورة مكونات لهويتها الوطنية، فصارت اللغة البرتغالية وهي لغة المستعمر السابق هي التي تجمع البرازيليين، وليست لغة السكان الأصليين وهم أقلية، واتجهت البرازيل التي صهرت أعراقاً وألواناً وعقائد شتى، إلى تطوير مكونات جديدة لهويتها الوطنية، وعلى رأس هذه المكونات، منتجات ورموز، كالموسيقا والرقص والرسم والفولكلور والأدب وكرة القدم . . الخ، وصاغت تاريخاً وذاكرة جمعية لسكانها .

المهم، أن المجتمعات، حينما تخشى من تعرض هويتها للانكسار أو التشويه أو الغيبوبة، فإنها تهب لبلورة مدركات أفرادها عن الذات، وأول هذه المدركات الإمساك بتجربتها المشتركة وبذاكرتها المشتركة، والتي تنتقل وتتوارث من جيل إلى جيل، وتتأثر بفعل عناصر جديدة، وبتفاعل مع ثقافات متنوعة، خاصة إذا كان للجغرافيا سطوتها على مكان الهوية، وأبواب هذه الجغرافيا مشرعة أمام الرياح والهجرات المتنوعة، وإغراءات الجذب لا الطرد متوفرة، وفي متناول اليد .

* إن الهوية، ليست وجوداً جامداً، وإنما تتشكل وتصير، وتعبر باستمرار عن علاقة مسار إنساني، له طرقه في التفكير والصفات والقيم والسلوك، والشعور المتماثل نسبياً وغيرها، وتكمن أهمية الذاكرة المشتركة، في كون من يفقدها، فإنه يتعذر عليه تحديد معالم هويته، فضلاً عن وجوده في الزمان والمكان .

ومن أبرز مكونات هذه الذاكرة، والتي تعنينا هنا في هذه السلسلة من قضايا العمل الوطني، التطور التاريخي، وادراك تاريخ الوطن، بعجره وبجره ومسار الحياة الانسانية في مختلف جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية والمعيشية . . الخ .

* وتتجلى في الذاكرة التاريخية دوماً، البنية الحيوية للجماعة الانسانية، كالموقع الجغرافي، والمناخ والبحر والصحراء والواحة والأحداث والتنظيم القبلي السائد، واساليب الاتصال والتنقل والهجرات وحركة السكان . وعلاقات الجماعة الانسانية مع مجالها الحيوي، وصراعاتها مع الغزاة وتفاعلها مع القادم المقيم أو العابر . .الخ .

* إن التاريخ المشترك، هو عنصر أساسي من مكونات الهوية الجمعية، ويعطي للحاضر دلالاته ومعانيه، ويعمق الشعور بالقيمة وبالثقة بالنفس، والاعتزاز بالانتماء، ويقود بالتالي إلى وحدة الذاكرة التاريخية الجمعية وتماسكها، معززاً الانسجام العاطفي للجماعة، والاستمرارية والديمومة الزمنية من دون انقطاع أو توقف .

* لماذا نسلط الضوء على هذه المسألة المحورية، في مكونات الهوية الوطنية؟

الاجابة واضحة، ولا تحتاج إلى تنجيم، ومفادها أن هناك غياباً لمشروع وطني لكتابة تاريخ الإمارات، وهناك تردد وهواجس وحساسيات، لكن كل ذلك لا يعفي أحداً من مسؤولية قلة ادراك جيل الشباب، المولود خلال العقود الأربعة الماضية، لتاريخ وطنهم ما قبل النفط، وما قبل قيام الاتحاد في ديسمبر 1971 .

* إن كل ما قدم ويقدم لهذا الجيل، هو تاريخ سردي حديث لانجازات يلمسها بيديه، ويعيشها يوماً بيوم .

وقد يقرأ نتفاً تاريخية هنا وهناك، تحدثت عنها مبادرات فردية، لباحثين جادين أو هواة .

* لكن ما نتفقده هو المشروع والسياق التاريخي العام، والرواية المتعمقة والرؤية النقدية والفلسفية الشاملة لهذا التاريخ . وعلى الأقل بدءاً من أوائل القرن السادس عشر، حينما وطئت أقدام البرتغاليين أول مدينة خليجية (قلهات في عمان) . ومروراً بالقرون الخمسة التالية .

* نحتاج إلى إنتاج مدجج بوعي تاريخي، وفي سياق عام متشابك مع عمقه في الجزيرة العربية وبتاريخ الحضارة العربية الإسلامية .

ويتطلب ذلك جهداً جماعياً، وبمنهجية علمية رصينة، تعتمد التحقيق والتمحيص للوثائق الاجنبية، وليس الاكتفاء بترجمة هذه الوثائق . والتي في غالبيتها مراسلات، كتبها مغامرون ورحالة عابرون، وضباط أساطيل بحرية تبحث عن كنوز الهند وتوابلها، أو ذهب إفريقيا، وتمارس القرصنة والاستعمار اضافة إلى مراسلات وكلاء أو خدمِ سادةِ تلك المرحلة من التاريخ .

إن هذه الترجمات، ليست حصيلة التاريخ، ربما تشكل بعضاً من المؤشرات الخالية من التعليل، لكنها لا تصلح أن تشكل تاريخ المنطقة الجماعي، ولا تسهم في تعزيز الشعور بالتماسك والاستمرارية والانتماء لدى هذا الجيل الطالع من الشباب .

إن كثيرين ممن تعرضوا لهذه ldquo;النتفrdquo; التاريخية، لا يملكون الأدوات المنهجية اللازمة لكتابة التاريخ، وروح البحث التاريخي، وقدموا هذه ldquo;النتفrdquo; المترجمة، من خلال تصوير التاريخ في مجمله، مجرد هيجان قبائل تتصارع، وحقبة عبودية تعارضها امبراطوريات غازية، ليس إلا .

ولا يتسع هذا المقال للتمادي في هذا التحليل، نكتفي بالقول إننا لا نتوقع ldquo;تصنيعrdquo; تاريخ غير موجود، أو تزوير تاريخ بالأصباغ والبطولات، وإنما نتطلع إلى تاريخ يتعدى الأخبار والأحداث المنتقاة، إلى إبراز المنطق المتضمن فيها، ومسيرة الإنسان والتحولات فيها، وفي إطار نسق شمولي لكافة جوانب الحياة والمكان والأفكار والظروف . . الخ .

* إن تاريخ المنطقة، لا ينفصل عن هويتها المعاصرة، ومن دون معرفة علمية لهذا التاريخ، لن يتمكن جيل الشباب، وهم الذين سيحملون على كواهلهم مهمة التواصل، ومتابعة العمل الوطني في العقود المقبلة، من تعزيز بنية الهوية فضلاً عن الاحساس العميق بها، وتطوير دينامياتها الداخلية، وتسهيل مهمة معرفته بالآخر والتعامل معه، وتجاوز الاشكاليات، وبلورة الفضاء الإنساني للهوية الوطنية .

* إن أجيال الشباب، تتعرض الآن لاختبارات عسيرة في الوعي بتاريخها، وحينما تحدث اكاديمي إيراني موتور، في مؤتمر حول الأمن في الخليج، قبل شهور، متبجحاً وقائلاً: ldquo;إن عمر ldquo;هذا الاكاديمي الزمنيrdquo;، هو أكبر من عمر إمارات الخليجrdquo;، كنت أرى حيرة وصدمة على وجوه شباب يشاركون في هذا المؤتمر، لا يدركون أبعاد هذا الاستخفاف الفج، ولا مدى ما فيه من شطط وجهالة تاريخية .

* إن الفرصة متاحة الآن أمامنا، في ظل هذا الكرم والنشاط الثقافي المحموم من حولنا، وفي إطار سؤال الهوية، الذي مازال حياً في فضاء المجتمع، وفي عقول الجميع وافئدتهم . الفرصة متاحة، للبدء بالشروع في بلورة مشروع وطني لكتابة التاريخ .

* إن كتابة تاريخ الإمارات، في سياق مترابط وشمولي، هو الاسم الحركي لكينونة الهوية، وما تستحقه كتابة هذا التاريخ، أكثر باضعاف، من هذه المشروعات الفضائية التجارية للترفيه السطحي، وأكبر من هواجس وحساسيات لحوادث صغيرة جرت في الماضي البعيد، وفي ضواحي التاريخ وهوامشه .

باختصار .

* مبادرتان أطرحهما للنقاش العام، وعلى أصحاب الحس الوطني من قادة الأعمال، أولاهما، إطلاق فضائية

متخصصة بالتاريخ - تاريخ المنطقة - وثانيتهما، مبادرة لتشكيل لجنة عليا رفيعة المستوى، لإدارة مشروع كتابة التاريخ الوطني .

الطريق قد تبدو صعبة، لكنها ليست كذلك، لأن سهم الهوية يشير إليها .