محمد أبو الفضل
كانت سياسات الولايات المتحدة حيال السودان تدور فى فلك مليء بالتخبط والارتباك حتى وقت قريب. فتارة تلجأ واشنطن إلى القسوة وأخرى تميل إلى استخدام اللين. وبين القسوة واللين مسافة طويلة يمرح فيها بعض المؤسسات والهيئات الأميركية، كلٌّ حسب موقعه ووفقاً لحساباته. وفى أحيان كثيرة جرى استخدام الأداتين (القسوة واللين أو العصا والجزرة) بما أوحى بالتناقض داخل الإدارة الواحدة. ففي الوقت الذي أعلن فيه كولن باول وزير الخارجية الأسبق في إدارة بوش عدم وجود إبادة جماعية في دارفور خلال زيارته الإقليم، عاد إلى واشنطن وأشار إلى وجودها أثناء شهادته أمام الكونغرس. وسمح تكرار هذا النوع من المواقف للخرطوم بالاستفادة من حال الارتباك التي بدت عليها واشنطن ويسرت على السودان الإفلات من استهداف طويل الأجل وتفويت الفرصة على اختيار العصا كأسلوب أميركي وحيد للتعامل معه.
ومع نهاية العام الماضي (كانون الأول/ ديسمبر) بدأ الاهتمام الأميركي ينصب على جنوب السودان وتتوارى دارفور إلى خلفية المشهد الإعلامي والسياسي. ولا أدري هل أن تراجع الأزمة فى الإعلام أرخى بظلاله على مكانتها فى الخطاب السياسي، أم العكس هو الصحيح، أي عدم التركيز عليها سياسياً أدى إلى تجاهلها إعلامياً؟ فى الحالين، كانت النتيجة واحدة. اهتمام بالمضمون فى الجنوب وتسليط الأضواء على الشكل فى الغرب. والهدف استكمال تطبيق اتفاق نيفاشا والوصول إلى نقطة الاستفتاء. لذلك بلعت الولايات المتحدة الكثير من أخطاء السودان وغضت الطرف عن مجموعة كبيرة من التجاوزات. حيث لم تعطِ آذانها لانتقادات المعارضة السودانية للحريات والديموقراطية وقضايا الإصلاح السياسى في شكل عام. وجاء تعاملها الإيجابي مع الانتخابات فى نيسان (أبريل) الماضي ليعزز قناعات جهات متعددة، سودانية وغير سودانية، بأن الولايات المتحدة وحلفاءها (رسمياً وشعبياً) أعطوا صك البراءة لهذه الانتخابات، دفاعاً عن مصالحهم ودعماً لجنوب السودان، فقد اعترفوا بنتائجها، على رغم عدم ارتقائها إلى المعايير الدولية. وفى هذا السياق أوضح جيمى كارتر الرئيس الأميركي الأسبق laquo;أن الانتخابات... كانت ضرروية لتكملة تنفيذ اتفاق السلامraquo;. واعترف غرايشن بأن الانتخابات laquo;مزورة لكننا نعترف بها من أجل الوصول إلى استقلال جنوب السودانraquo;.
ذلك هو فحوى إجراء الانتخابات وسط حقول الألغام السياسية، فالديموقراطية مرفوضة، إذا كانت وسيلة لتعطيل الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب. وحزب المؤتمر الوطني الحاكم مقبول، طالما أنه سينفذ هذا الاستحقاق. والرئيس عمر البشير يمكن التعامل معه سياسياً وان كان مطلوباً جنائياً، طالما أنه سيكون مفيداً لتمرير الاستفتاء. وأدركت الحركة الشعبية المعطيات السابقة وبدأت تتعامل مع مكوناتها عملياً. وهو ما تؤكده المقاطع والمفاصل التى ظهرت تجلياتها فى عدد من التحركات السياسية والرمزية، بما كشف عن عمق العلاقة بين واشنطن وجوبا. والأخيرة كانت مقصداً لغالبية زيارات غرايشن للسودان أكثر من دارفور.
الواقع أن هناك جملة من الإشارات تبدو كفيلة للقول إن الولايات المتحدة معنية بقوة بدعم الاستفتاء والانحياز لخيار الانفصال، أهمها الإصرار الأميركي الغريب على إجراء انتخابات نيسان الماضي، وسط موجة عارمة من الاعتراضات والتحفظات من قبل أقطاب المعارضة السودانية، على اعتبار أنها مقدمة أساسية للاستفتاء. كما أن لقاء جون بايدن نائب الرئيس الأميركي مع سلفاكير رئيس حكومة الجنوب في نيروبي فى 10 حزيران (يونيو) 2010 يمثل نقلة مهمة فى مجال تجديد دماء الدعم المعنوي. فخلال اللقاء أكد بايدن دعم بلاده إجراء الاستفتاء. وقبل وبعد لقاء بايدن ndash; كير بدا نائب الرئيس الأميركي حريصاً على إرسال إشارات تطمين إلى بعض الدول الأفريقية المجاورة للسودان من مغبة تداعيات الاستفتاء. وكان واضحاً فى التشديد على الاعتراف الإقليمي بنتيجته. الأمر الذي حظي بجزء معتبر من خطاب الترويج الأميركي، الذى انتقل سريعاً إلى خانة تهيئة الأجواء السياسية للانفصال.
كانت زيارة باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية لمقر مجلس الأمن فى نيويورك في 15 حزيران الجاري دليلاً كافياً على ارتفاع سقف المساندة الأميركية والدولية لحركته، ومؤشراً جديداً على عمق التفاهمات المشتركة مع واشنطن. فالزيارة تمت بترتيب من البعثة الأميركية فى الأمم المتحدة، للإعداد لمرحلة ما بعد الاستفتاء. كما تضمن جدول زيارة أموم على رأس وفد من الحركة لقاء مع أعضاء الكونغرس الأميركي. وهو ما أشار إلى نتيجتين. الأولى، أن خطوات الاستقلال تسير بوتيرة متسارعة وعلى خطين متوازيين، داخلي وخارجي. والثانية، على الخرطوم التعامل بجدية مع النتيجة الأولى، لأن أي عرقلة متعمدة ستدفع ثمناً غالياً لها، خاصة أن الحركة الشعبية حالياً لديها من الاستعدادات السياسية والإمكانات العسكرية ما تستطيع أن تدافع به عن مصالحها. أقرت الحركة الشعبية قبل أيام قليلة، أمانة للتفاوض مع حزب المؤتمر الوطنى، تتمثل فيها النروج وهولندا والأمم المتحدة والهيئة الحكومية للتنمية ومكافحة الجفاف فى شرق افريقيا (ايقاد) للمساهمة فى المحادثات الخاصة بقضايا ما بعد الاستفتاء.
يتوافق هذا الكلام مع جانبين. الأول داخلي، إذ تسعى الحركة منذ فترة إلى تحديث وتطوير قواتها بما يتواءم مع الحاجة إلى امتلاك جيش قوي للدفاع عن الدولة الوليدة التي من المتوقع أن تكون معرضة لمناوشات من هنا وهناك. والثاني خارجي، حيث تعتقد قيادات فى الحركة ضرورة الاتجاه نحو التحالف مع قوى كبيرة ومؤثرة. وهو ما يؤكده بعض التقارير التي ظهرت فى أوائل أيار (مايو) الماضي. وكشفت أن الحركة الشعبية طرحت على واشنطن إقامة حلف عسكري. وطلبت توفير الاحتياجات اللازمة لتقوية البنية العسكرية في الجنوب وسد العجز في موازنة الجيش الشعبي وإنشاء سلاح للطيران والمساهمة فى سداد متأخرات شحنات الأسلحة التى تسلمها الجيش الشعبي. وفى المضمار ذاته تردد أن حكومة الجنوب تريد بناء تعاون عسكري مع الولايات المتحدة لمواجهة تحديات الإرهاب وفض النزاعات فى المنطقة ونقل مقر القيادة العسكرية الأميركية في افريقيا (أفريكوم) من ألمانيا إلى جنوب السودان.
تنطوي هذه الاستنتاجات والمعلومات على رغبة واضحة للانفصال. لكن طريق الوصول إليه غير مفروش بالورود، كما يتوقع كثيرون، بسبب وجود مجموعة ضخمة من الأشواك والتحديات، التى يمكن أن تعرقل إجراء الاستفتاء ومن ثم تدشين خيار الاستقلال. ولندقق النظر في ما قالته ليز غراندي نائبة منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية فى السودان، حيث أشارت إلى سوء الأوضاع الإنسانية فى جنوب السودان، في وقت يشهد فيه الإقليم نقصاً فى الغذاء وصراعات قبلية حادة، ربما تؤثر سلباً في الاستفتاء. فقد كانت الاشتباكات القبلية التى حدثت العام الماضي سبباً فى مقتل 2500 شخص تقريباً وتهجير حوالى 350 ألف آخرين. وهي نسبة تتجاوز ما حدث فى إقليم دارفور خلال العام نفسه. لا تتوقف المسألة عند ذلك، بل أصبح الاقتتال القبلي هاجساً يقلق دوائر غربية متعددة، في ظل تنوع وتزايد الميلشيات التي فشلت الحركة الشعبية في القضاء عليها عسكرياً أو احتوائها سياسياً.
مكايدات الخرطوم جعلت الحركة الشعبية تلوح بإجراء الاستفتاء قبل الانتهاء من تسوية القضايا العالقة. ما يقلل من أهمية نداءات حزب المؤتمر الوطني أخيراً لجعل خيار الوحدة جاذباً. ويحصرها فى زاوية إبراء الذمة، لا أكثر ولا أقل. الحاصل أن الولايات المتحدة تسعى لتحقيق هدفين رئيسين. الأول، أن تكون لها يد سياسية طويلة في السودان، شمالاً وجنوباً، بما يمكنها من قص أجنحة القوى المنافسة لها والحفاظ على مصالحها المترامية. والثاني، أن يكون الطلاق بين الخرطوم وجوبا طلاقاً مدنياً هادئاً، خشية العودة إلى الحرب الأهلية وخوفاً من هدم التصورات التي قامت على ترتيبات سلمية للمنطقة.
التعليقات