ميشيل كيلو

هل صحيح أن إيجاد حلول لمشكلات العرب يجب أن ينتظر وحدتهم، لكونه مستحيلا بالضرورة دونها؟ طرحت علي هذا السؤال فقرة من كتاب مهم أصدره 'مركز دراسات الوحدة العربية' في بيروت تحت عنوان 'المشروع النهضوي العربي'، يقول في الصفحة التاسعة والخمسين ما يلي: 'لا نهضة للأمة من دون وحدتها القومية'.
باستثناء هذه الفقرة الأساسية، يحتوي الكتاب على جملة أفكار نقدية وحديثة من موضوع الوحدة العربية، تتناقض تماما مع مضمون هذه الجملة القطعي، الذي يذكر بما كان يقال ويكتب عن وحدة العرب خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية، وحتى أواسط الستينيات، باعتبارها المسألة المركزية والرافعة الرئيسية لأي نهوض أو تقدم عربي. هذه الرؤية لمركزية الوحدة العربية في مشروع النهضة العربية تقوم على 'مبدأ 'يرى مؤلف الكتاب أنه ليس مبدأ نظريا نستفيده بعملية استنباط ذهني، بقدر ما هو ترجمة مادية وحصيلة موضوعية للسيرورة التاريخية التي قطعتها مجتمعات وأمم في سبيل تحقيق نهضتها، التي أتى إنجازها وحدتها القومية المدخل إليه والرافعة السياسية التي قام عليها'. (ص58/59).
علمتنا تجربة نصف القرن الماضي، وكانت أساسا تجربة احتجاز وحدة الأمة، أن هناك انفصالا فعليا يصعب تخطيه بين الوحدة والنهضة، وأن علينا التفكير في السبل النظرية والعملية الكفيلة بدخول العرب إلى وحدتهم القومية من بوابة نهضتهم، بعد أن آمنوا لفترة باستحالة الدخول إلى النهضة من غير بوابة الوحدة، الأمر الذي ثبت فشله قبل وبعد تشكل الدول الوطنية العربية، بين الحربين العالميتين وبعد الثانية منهما. لا شك أن قيام وحدة العرب سيجعل لنهضتهم معنى مختلفا عن معناها في ظل دولهم الراهنة، وأنه سيسهل النهضة وسيجعلها أوسع مدى وأعمق غورا. لكن عدم قيام الوحدة لا يجوز أن يكون سببا جامعا/مانعا لعدم حدوث نهضة، وإلا كنا أسرى تفسير جبري للواقع، يربط ممكناته باحتمال واحد يصير الفعل الإنساني عديم الجدوى، بل ومستحيلا، في غيابه، وفي هذا ما فيه من خروج على المنطق، واحتمالات وممكنات الواقع، وهو تبرئة صريحة للنظم العربية السائدة من دورها في عدم قيام الوحدة. إذا كان احتجاز الوحدة يفضي بصورة حتمية إلى احتجاز النهضة، وكانت النهضة مستحيلة دون الوحدة، فإننا نكون أمام معادلة مستحيلة تفرض علينا اتجاها واحدا في العمل، يقوم على السعي إلى تحقيق الوحدة وتجاهل كل ما عداه، بما في ذلك تغيير ظروفنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية القطرية، الذي ليس فعلا وحدويا مباشرا، لكنه يعزز حرية الشعب ويوسع قدراته ويقوي دوره في علاقته مع حكامه وقطره، ويجعل قيام الوحدة أكثر سهولة من حيث يضعف مقاومة الأمر القائم لها. تقول الجملة من الكتاب التي تقول باستحالة النهضة العربية دون الوحدة: من العبث فعل أي شيء خارج دائرة الوحدة المباشرة، بما في ذلك النضال من أجل النهضة، والديمقراطية، والتجدد الحضاري، والاستقلال، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، وإضفاء طابع وطني وشعبي على السلطة القائمة يصالحها مع مجتمعها، وإقامة مؤسسات ومرافق ومصالح مشتركة تتخطى الأقطار، تؤسس منظمات عربية / قومية المجال تغطي نشاط الدول في القطاعات العلمية والصحية والإدارية والخدمية والتنموية والتعليمية، وفي حقول السياسات الداخلية والخارجية، تقوي فرص الوحدة العربية، التي تصير قضية تتصل بتنمية المؤسسات القائمة وتطويرها وتوسيع دائرة فعلها، وتوقف التفكك العربي الزاحف، الذي يهدد الدول القطرية الراهنة، ويعتبره الكتاب خطرا داهما يجب التصدي له.
إذا لم نكن قادرين على الوحدة، وعاجزين عن النهوض، فماذا يبقى لنا؟ أليس هذا حكم إعدام سياسي علينا كأمة وشعوب وأفراد؟. وهل يتفق هذا الحكم مع تجارب غيرنا من الأمم، كما يقول الكتاب؟ ألم يعرف التاريخ تجارب جاءت فيها الأمم إلى وحدتها من نهضتها، أم أن جميع الأمم سارت على درب احادي الاتجاه، يقود من الوحدة إلى النهضة، فإن فشلت في توحيد نفسها قوميا فشلت في تحقيق نهضتها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، وصار من الحتمي قراءة الفاتحة على روحها؟ تقول التجربة التاريخية إن هناك أمما عديدة وصلت إلى وحدتها من نهضتها الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، وأن نهضتها هي التي فتحت أمامها درب الوحدة، بينما فتح درب الوحدة أمام غيرها درب النهضة، في علاقة جدلية، معقدة لكنها مؤكدة، بين وحدة كانت منطلق النهضة، ونهضة مهدت لقيام الوحدة وجعلتها خيارا واقعيا وتاليا ممكنا.
يصدر مبدأ الكتاب حول تبعية النهضة للوحدة حكم براءة على الأنظمة العربية القائمة، التي قاتلت قتال الأبطال ضد الوحدة، وها هي ترفض بتصميم وإصرار إنجاز أية خطوة على طريق النهضة، بما في ذلك تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة من شأنها زيادة دخل مواطنيها وتحسين ظروف عيشهم؟. إذا كانت النهضة متحولا من متحولات الوحدة، فإن إحجام النظم عن تحقيق النهضة يصير مبررا، ليس بسياساتها وارتباطاتها وفسادها وعجزها وضعفها واستبدادها، بل بالحتمية التي لا يستطيع أحد القفز عنها أو تجاوزها، المتعالية على إرادة البشر وخياراتهم، التي تربط تحقيق النهضة بتحقيق الوحدة، فإن استحالت الثانية، كان من المحال أيضا طرح السؤال الذي يفرض نفسه حول سبل تحقيق نهضة إطارها الدول القائمة، وصار من المحتم قبول الأمر القائم، الذي احتجز الوحدة والنهضة، باعتباره أمرا طبيعيا، بل الأمر الطبيعي الوحيد، الذي حسنا يفعل لأنه لا يضيع وقته وجهوده على تحقيق نهضة جعلها غياب الوحدة مستحيلة بالضرورة والقطع!.
ليس العرب فوق التاريخ أو خارجه. وهم لا يخضعون لاعتبارات تخصهم وحدهم دون سائر أمم وشعوب الأرض، كما كان بعض 'الفكر' القومي يعتقد في خمسينيات القرن الماضي. في التاريخ، هناك أمثلة على أمم حلت مشكلتها القومية بفضل تطور ثقافي وحد إرادة أبنائها وجعلهم يرون في وحدتها أولوية يرتبط مصيرهم بتحقيقها.
وهناك أمم وحدها تطورها الاقتصادي والاجتماعي، وأمم أخرى وحدتها خيارات نضالية وتغيرات سياسية وقعت فيها أو في البيئة الدولية، وهناك أخيرا أمم حققت نهضة عظيمة دون أن تتحد في دولة قومية، فبقيت أمة بلا دولة، لكنها نشطت وتقدمت ودافعت عن مصالحها بجدارة، واحتلت موقعا ملائما تحت الشمس.
ما دامت الوحدة القومية مستعصية، من الضروري العمل في سبيل الاختيار البديل: ممارسة أشد الضغوط على النظم العربية القائمة لإجبارها على الأخذ بسياسات نهضوية، تغير وظائف الدول وعلاقاتها مع مجتمعاتها وأدوارها، وترسم لها أهدافا جديدة، مغايرة لأهدافها الحالية، تجعل منها دولا حقيقية وليس مجرد أدوات بيد حكام يتركز اهتمامهم ونشاطهم بصورة حصرية ومطلقة على السلطة ومستلزمات بقائها وتغولها. هذا الهدف ليس مستحيل التحقيق. إنه في متناول أيدينا، وهو معنى ومضمون النضال الوحدوي في هذه الحقبة من تاريخنا، علما بأنه لا يسد طريق النهضة والتغيير، شاملا كان أم متدرجا، ولا يتخلى عن مطلب الوحدة وضرورتها، بل يجمع بينهما في جدلية يمكن ترجمتها إلى فعل يومي ونشاط نضالي، مدخله في الحالتين انتزاع الديمقراطية : حق المواطن في التعبير عن حقوقه، وفي مقدمها حقه في أن يشارك في نهضة وطنه ومجتمعه، وفي توحيد أمته، باعتبارهما فعلا يتم في ميدانين مختلفين لكنه مترابط الأجزاء، متكامل الأنشطة، فيه إعادة إنتاج السياسة بما هي فاعلية مجتمعية مباشرة أيضا، يتوقف عليها، وليس على أي شيء آخر، تحقيق ما يصبو إليه المواطنون العرب، من الوحدة إلى النهضة أو بالعكس: من النهضة إلى الوحدة!.
لا يجوز بعد الآن سجن الواقع في مقولات قطعية ونهائية تقيد حركتنا فيه وتبطل احتمالاته. ولا يحق لنا فرض ترسيمات معينة عليه، تلغي جوانبه التي لا تتفق مع تصوراتها المسبقة. بعد تجربة نصف القرن الماضي، يجب أن نفكر ونتصرف بطريقة تبقي باب الاحتمالات والممكنات النظرية والعملية مفتوحا، كي لا نعيد إنتاج فشلنا من جديد، ونكتشف متأخرين أن ما كنا نظنه أسسا نظرية فيها حل مشكلاتنا كان قيودا على عقولنا وحركتنا، حالت بيننا وبين إيجاد بلوغ أهدافنا!.