عبدالعزيز بن عثمان التويجري


من حق المؤسسات الدستورية النيابية في أي دولة، أن تتدخل في ما تشاء من الموضوعات وتناقش ما تريد من القضايا، فلا حرج عليها في بحث الأمور التي ترى أن المصلحة الوطنية تقتضي طرحها ومناقشتها. أما التدخل في السيادة الوطنية للدول الأخرى التي تتخذ قرارات في نطاق قوانينها المعمول بها، فهذا مما لا يحمد لهذه المؤسسات الدستورية، إذا بدر منها ذلك فعلاً وصدر عنها ما يثبت هذا التدخل. ومن ذلك تدخل الكونغرس الأميركي أخيراً في قضية هي من صميم السيادة الوطنية لدولة عربية إسلامية.

فلقد قامت لجنة حقوقية تضم أعضاء من مجلس النواب الأميركي، بالتدخل في قضية المنصرين الأميركيين المبعدين من المملكة المغربية، الذين قاموا باستغلال براءة الأطفال في مراكز الأيتام في بعض المناطق، لتنصيرهم تحت ستار الأعمال الخيرية والإنسانية. وهذا من دون شك تدخل سافر في الشؤون الداخلية لدولة صديقة للولايات المتحدة الأميركية، بل هو انحياز إلى طائفة من الأميركيين تقف وراءهم مؤسسات كبرى، تمارس أنشطة ضد القوانين في كثير من البلدان العربية الإسلامية.

كان من المفروض أن تطالب هذه اللجنة الحقوقية التي تحمل اسم عضو الكونغرس السابق وأحد الناجين من المحرقة النازية، توم لانتوس المعروف بمواقفه المؤيدة لسياسات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية والتي يرأسها النائب فرانك وولف، والذي يعد هو الآخر، من أكبر مؤيدي سياسات القمع الإسرائيلية وانتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، كان من المفروض أخلاقياً وقانونياً أن تطالب اللجنة بإدانة جرائم إسرائيل ضد الإنسانية وحصارها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة واعتدائها على قافلة الحرية في المياه الدولية، وانتهاكها المقدسات الإسلامية، واستهتارها بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، بدل التدخل في شؤون دولة مستقلة تعمل من أجل الحفاظ على حقوق أطفالها وحمايتهم من أن تستغل احتياجاتهم لأغراض غير إنسانية وليست بريئة بأي حال من الأحوال.

ولا شك في أن الخطاب الذي تستخدمه هذه اللجنة الحقوقية التي من المفترض أن تلتزم الموضوعية والنزاهة، هو خطابٌ سياسيٌّ غير بريء يتسم بالابتزاز والتحريض، ويدل على أن نشاطات المنصرين المبعدين من السلطات المغربية طبقاً للقانون المغربي، يقف وراءها قوى لها أهداف تخريبية في دول العالم الإسلامي، وأن لا علاقة لها بتاتاً بالأعمال الخيرية والإنسانية التي يتسترون خلفها.

لقد بادرت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ndash; إيسيسكو، في بيان أصدرته حول هذا الموضوع، إلى مطالبة المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، بإصدار قانون يجرّم استغلال براءة الأطفال في أي مكان في العالم تحت ستار الأعمال الخيرية والإنسانية. وهي مبادرة تستدعي تضافر الجهود من دول العالم الإسلامي ومن المنظمات والهيئات والمؤسسات ذات الاهتمام، لدعمها في المحافل الدولية.

وكانت الإيسيسكو أعلنت في بيان لها سابق أصدرته يوم 12 أيار (مايو) الماضي، عن تأييدها الإجراءات التي اتخذتها المملكة المغربية لحماية أطفالها من حملات التنصير التي تقوم بها إرساليات تتستَّر وراء غطاء الأعمال الإنسانية، مستغلة استغلالاً مغرضاً براءة الأطفال اليتامى وحاجتهم وفقرهم، للتغرير بهم والإيقاع بهم في حبائلها بتلقينهم مبادئ الدين المسيحي قسراً وإكراهاً، وأكدت الإيسيسكو أن من حقّ المملكة المغربية السيادي منع مثل هذه الحملات غير الأخلاقية وغير القانونية التي تنتهك سيادة المغرب وقدسية دينه الرسمي وحقوق أطفاله، وأشادت بما تتمتع به المملكة المغربية من تسامح، وبما توفره لأتباع الديانات من حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وبما تحفظ لهم من كرامة وحقوق.

وفي هذا السياق وجّه السيد عزيز مكوار، سفير المغرب في الولايات المتحدة الأميركية، رسالة إلى لجنة توم لانتوس لحقوق الإنسان، يؤكد فيها أن المملكة المغربية لم تتخذ تدابير عودة المنصّرين المطرودين إلى المغرب، وذلك ليس بسبب عقيدة المسيحيين، وإنما لكونهم ارتكبوا جرائم جنائية، ثبتت من خلال التحقيق والشكاوى الرسمية من قبل الآباء والأمهات وأقارب الأطفال المعنيين. وأضاف يقول إن laquo;السلطات المغربية ملزمة بالوفاء بمسؤولياتها على النحو الواجب من خلال تطبيق القوانين ذات الصلة، في حين أصرت السلطات المغربية على أن laquo;لا تنتهك حرية العبادة المكفولة دستورياًraquo;.

وسبق أن حضّ رجال دين مسيحيون يمثلون مؤسستين مسيحيتين، هما laquo;المجلس الوطني للجنة الكنيسةraquo; و laquo;المجتمع وتحالف الكنيسة الإنجيليةraquo;، في تطور مثير لهذه القضية، النائبَ وولف على عدم عقد جلسة الاستماع، لأن ذلك من شأنه أن laquo;يزيد من خطر تعريض غيرها من الجماعات الدينية والمساعدات الإنسانية العاملة في المغرب للتدخل من جانب السلطات الرسميةraquo;. وكان رجال دين مسيحيون قد حلوا بالمغرب في نيسان (ابريل) الماضي، حيث التقوا مع ممثلين عن الطائفة المسيحية، ومسؤولين في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ورئيس الطائفة اليهودية بالمغرب، وخلص هؤلاء إلى نتيجة مفادها أن laquo;عمليات الطرد الأخيرة لم تكن عملاً من أعمال العداء تجاه الدين المسيحيraquo;.

وقال رجال الدين المسيحيون هؤلاء في بلاغ لهم أصدروه عقب زيارتهم المغرب: laquo;نرى أن عمليات الترحيل تشير إلى تزايد قلق المسؤولين المغاربة في شأن أنشطة معينة لبعض المسيحيين الأجانب التي أثارت شكاوى من المجتمع المدني المحلي بالمغربraquo;، وذهبوا إلى التأكيد على أنه لا يوجد laquo;اضطهاد ديني في المغربraquo;. فيما يصر النائب وولف على أنه حاول التنسيق مع كل من المغرب والمسؤولين الأميركيين على مدى الأشهر الثلاثة الماضية لـ laquo;تسوية الوضعraquo;، وقال إنه تأخر laquo;حتى في تحديد موعد لجلسة الاستماع في العديد من المناسبات لإتاحة الوقت الكافي للتوصل إلى حل للمشكلةraquo;، مؤكداً أنه laquo;حان الوقت لتنظيم جلسة استماع في الكونغرسraquo;. وتدل هذه التطورات التي نشرت الصحف أنباءها، على انتفاء التنسيق بين الأطراف الأميركية بهذا الخصوص، وعلى وجود إصرار مريب على إثارة القضية تحت قبة الكونغرس، لتحقيق أغراض تخدم مصالح أطراف تناصب العرب والمسلمين عموماً العداء المكشوف.

ويظهر بالوضوح الكامل أن الكونغرس الأميركي يتبنى قضايا دينية تخدم مصالح الإرساليات التنصيرية التي تعمل في أقطار عربية وإسلامية عديدة. وهو الأمر الذي يثبت أن العلمانية لدى المشرعين الأميركيين، ليست هي إقصاء الدين عن السياسة، أو إلغاء الدين من العمل التشريعي والسياسي، وأن الدين بُعد يراعى ويؤخذ في الاعتبار ضمن أبعاد السياسة الأميركية في تعاملها مع المجتمعات الإسلامية، بصورة خاصة.

والغريب في الأمر أن يقود هذه الحملة المؤيدة للإرساليات التنصيرية التي تنتهك القانون في عدد من المجتمعات الإسلامية، يهوديٌّ صهيونيُّ الانتماء مناصرٌ متحمسٌ للسياسات الإسرائيلية العنصرية والعدوانية ضد الشعب الفلسطيني، وباسم حقوق الإنسان المفترى عليها، وتحت قبة الكونغرس معقل التشريع الأميركي.