مراد زروق


ناقشت مؤخراً باحثة إسبانية أطروحة دكتوراه في جامعة إشبيلية حول حدث يكاد يكون منسيا عند أغلب المغاربة والجزائريين رغم أنه خلّف جرحا عميقا وشرخا في العلاقات بين البلدين. لقد تناولت هذه الباحثة بالدرس موضوع حرب الرمال التي دارت رحاها سنة 1963 بين المغرب والجزائر بسبب نزاع حول الأراضي التي كانت فرنسا ضمتها إلى الجزائر في السياق الاستعماري. لم تفضِ الحرب إلى أي نتيجة على أرض الواقع، واعتقد الجميع أن وقف إطلاق النار كفيل بأن يجعل ملف الأزمة يُطوى إلى الأبد، لكن تلك الحرب خلّفت جرحا عميقا في اللاوعي السياسي الجزائري، وهذا ما لا يفهمه رجال الدولة في المغرب عندما يتكلمون عن استماتة الجزائر في الإضرار بمصالح المغرب. الجميل في هذا النوع من الدراسات التي يقوم بها باحثون محايدون تماما هو القدرة الفائقة على سبر أغوار بعض الجوانب التي قد يمر عليها المعنيون بالأمر مر الكرام.
لقد كانت تلك الحرب بداية لبلورة شعورين قوميين جديدين، القومية الجزائرية من جهة والقومية المغربية من جهة أخرى. إلى حدود 1963 كان الشعور القومي في المغرب والجزائر على حد سواء يرتكز إلى الشرعية المستمدة من مقاومة الاستعمار. ورغم أن المستعمر لم يكن عنده مشروع مسبق لخلق شعور قومي قُطري في كل المستعمرات، فإنه عن طريق القمع والتضييق انتهى به الأمر إلى دفع مناهضي الاستعمار داخل المستعمرات إلى إعادة تشكيل مفهوم الانتماء، بحيث خرج الناس من مرحلة الانتماء إلى laquo;أمةraquo; تعيش في منطقة مترامية الأطراف إلى مرحلة التعصب للمشروع القُطري الذي قام على أنقاض الاستعمار والمقاومة من أجل الاستقلال. لم يكن المغرب والجزائر يختلفان كثيرا عن باقي المستعمرات في القارة الإفريقية والعالم العربي، فمفهوم الدولة القُطرية كان جديدا وبناؤه كان على حساب الماضي العثماني في الجزائر، وفي المغرب الذي لم يكن جزءا من الإمبراطورية العثمانية قام هذا المشروع كبديل للمغرب الكبير الذي كان يحكمه السلاطين العلويون الذين كانت سلطتهم تطال مناطق بعينها وتُفلت منها مناطق أخرى خصوصا تلك المناطق الوعرة التي كانت تقطن بها قبائل مستقلة نسبيا عن السلطة المركزية. الدليل أن مفهوم الانتماء تغير أكثر من مرة في ظرف قرن ونيف في المغرب والجزائر على حد سواء هو نهاية مرحلة التضامن الإسلامي المطلق بعد هزيمة جيش سلطان المغرب في معركة إيسلي سنة 1844 أمام الفرنسيين الذين تمكنوا من تحييد الدعم المغربي للمقاومة الجزائرية وهو الدعم الذي ما فتئ علماء مدينة فاس يصرّون عليه حتى بعد هزيمة إيسلي وتوقيع اتفاقية طنجة. بعد هذه المرحلة جاء سياق تضامن الشعوب المستعمرة فيما بين بعضها البعض، وإن لم يكن هناك وعي عميق بالاختلاف بين سكان شمال إفريقيا، وهذا التضامن التلقائي دام وتوثق خلال السياق الاستعماري خصوصا أيام حرب التحرير في الجزائر. بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956 ثم الجزائر سنة 1962 تفجر الخلاف حول الأراضي التي ضمتها فرنسا إلى الجزائر، فاندلعت تلك الحرب العقيمة التي ما زلنا نعيش مخلفاتها إلى يومنا هذا.
لقد أصابت الباحثة باختيارها للموضوع وبدراسة مخلفاته غير المباشرة، لأن أغلب المتتبعين لشأن العلاقات المغربية الجزائرية لا يعودون بذاكرتهم إلى ما قبل احتضان الجزائر لجبهة البوليساريو وتعثر مسار الاندماج في إطار مشروع الوحدة المغاربية الفاشلة. أغلب الدراسات التي أُنجزت حول الأزمة بين المغرب والجزائر تأخذ بعين الاعتبار الأسباب الموضوعية من قبيل مخلفات الحرب الباردة في بُعدها المغاربي والصراع الجيواستراتيجي بين البلدين ومجموعة من الاعتبارات الأخرى، لكنها لا تتوقف كثيرا عند الأسباب الذاتية والأهواء والكراهية المتبادلة بين الحسن الثاني وهواري بومدين، خصوصا الجرح الغائر الذي خلفته حرب الرمال إلى درجة أن العداء بين المغرب والجزائر أصبح من أهم مكونات الوعي بالذات والشعور القومي المحلي في البلدين.
لقد أعادت أطروحة الدكتوراه هذه إلى الذاكرة تلك النيران الخافتة التي طُبخت فوقها كل التوترات التي تعانيها المنطقة ووضعتنا أمام حقيقة العقدة النفسية التي غذت كل المناورات وردات الفعل التي قوضت العلاقات بين المغرب والجزائر، إلى أن أصبحت هذه العلاقات المتوترة أصلا مرتبطة بإيجاد حل لملف الصحراء وهو مشكل ليس باليسير.