جورج سمعان


العراقيون والمعنيون بالشأن العراقي يتوقعون ولادة الحكومة الجديدة قبل بدء سحب القوات الأميركية آخر الشهر المقبل. وقبل نفاد المهلة الدستورية التي تنظم تشكيل المؤسسات. فماذا لو لم تتفق الكتل الأربع الكبرى الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وطالت أزمة تشكيل الوزارة العتيدة؟ هل يعدل الأميركيون في برنامج انسحابهم من تلقاء أنفسهم أم يطلب منهم قادة البلاد ذلك خوفاً من اندلاع موجات العنف الطائفي والمذهبي؟ وهل يتم تجاوز الدستور وتجاهل المهل القانونية؟

الأميركيون والعراقيون يؤكدون أن جدولة الانسحاب باقية في مواعيدها سواء قامت الحكومة الجديدة أم لم تقم... وهم يتفقون على أن التشكيلة الجديدة يجب ألا تستثني أحداً خصوصاً الكتل النيابية الأربع الكبرى. وهي رغبة عبرت عنها أيضاً قوى دولية وإقليمية كحل وحيد للأزمة الناشبة ولترسيخ المصالحة وتوطيد الاتقرار. وجاءت آخر رغبة في هذا المعنى من نائب الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته بغداد قبل اسبوع بدعوته laquo;أن تكون الكتل الرئيسية كافة ممثلة في الحكومة الجديدة وفي شكل نسبيraquo;. وسمى laquo;العراقيةraquo; و laquo;دولة القانونraquo; و laquo;الائتلاف الوطنيraquo; والتحالف الكردستاني.

اي أن العراقيين على خطى اللبنانيين محكومون بالديموقراطية التوافقية التي لا علاقة لها بنتائج الانتخابات وصناديق الاقتراع وخيارات المواطنين، بقدر ما لها علاقة بالتوزيع أو التقاسم الطائفي والمذهبيي والإثني للمواقع والمناصب... والمنافع. أي المحاصصة مهما حاولوا تجميل الكلمة. هذا ما فعلوه بعد انتخابات 2005 وطال بهم الأمر حتى توافقوا على حكومة شراكة وطنية يذمونها كل يوم... ولكن لا مفر منها. وهم اليوم يكررون التجربة نفسها: يناورون جميعهم يومياً، بعضهم على بعض، لكنهم يتفقون على أنهم لن يسمحوا بإبعاد أي كتلة، وأن التشكيلة الموعودة يجب ألا تستثني أو تتجاهل أحداً! فلماذا إذاً التأخير؟ وعلامَ الخلاف؟

الخلاف هو على تحديد هوية القائمة التي ستشكل الحكومة. وهو خلاف سياسي أساساً قبل أن يكون قانونياً، لأن في هذا التحديد مؤشراً إلى المستقبل السياسي للعراق، أي مستقبل كياناته ومواقعها في ميزان القوى الداخلي وطبيعة العلاقات التي تربط بينها. ولأن فيه أيضاً مؤشراً إلى هوية النفوذ الدولي والإقليمي الأقوى ونسب توزيعه... دولياً وإقليمياً بين الجيران وما أشد شهيتهم! والخلاف كذلك هو على تحديد هوية الحكومة، هل تكون مركزية قوية أم فيديرالية ضعيفة لا قدرة لها على التحكم بالمحافظات أو الأقاليم. أي أن الخلاف تالياً هو على تقاسم الثروة أي النفط ومناطقه. وقد أنعشت بعض هذا الخلاف أخيراً تصريحات قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ريموند أوديرنو عن إمكان نشر قوات دولية في المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد (في محافظات نينوى وديالى وصلاح الدين وكركوك) إذا تعذر دمج قوات البيشمركة بالجيش العراقي. وفي حين رحب بعض القوى الكردية بالاقتراح هاجمه بعض القوى العربية.

وإذا كان الخلاف العربي - الكردي على الموارد، خصوصاً النفط لا يكفي. فإن الدور الخارجي يزيد الوضع تعقيداً. ذلك أن الجمهورية الإسلامية التي يتهمها خصومها بالتعاون مع ميليشيات وlaquo;مافياتraquo; محلية وإقليمية في تهريب النفط عبر موانئ جنوبية، ستزداد حاجتها إلى نفط العراق مع الحزمة الجديدة القاسية من العقوبات، ولا سيما منها تلك التي أقرها الكونغرس الأميركي ودول الاتحاد الأوروبي والمتعلقة بمجالي النفط تكنولوجياً واستثماراً وغير ذلك. وكلها عوامل تعقد العملية السياسية.

وكان الأمر سيبدو أقل تعقيداً لو أن الخلاف اقتصر على المكونات في ما بينها. لكنه يتشظى داخل كل تكوين. ولا حاجة إلى ذكر ما تعانيه الكتل الشيعية من تجاذبات عجزت إيران حتى عن تذليلها قبل الانتخابات وبعدها لتضمن لها اليد الطولى. وهي تجاذبات أضعفت وتضعف هذه الكتل. وتضعف تالياً مستقبل العنصر الشيعي وقدرته على ريادته للنظام الجديد في بغداد. وتجعله أيضاً أقل قدرة على مواجهة التكوينات الأخرى التي تدير معركة سياسية بامتياز لمنع الطائفة الشيعية من تكريس إمساكها بالبلاد نظراً إلى حجمها الديموغرافي، وللحد من تأثير إيران الطامحة إلى ملء الفراغ الكبير الذي سيخلفه الانسحاب الأميركي من العراق سياسياً وأمنياً واقتصادياً.

في الكيانات الأخرى، يجد الأكراد أن الحفاظ على مصالحهم وعلى الوضع القائم في ما يخص سلطتهم المطلقة في إقليم كردستان هو غاية المنى ولا يمكن التفريط به. ولا يبدون راغبين في أكثر من ذلك وأمامهم تجربة مطلع التسعينات واحترابهم الداخلي في التنازع على السلطة والمنافع. إضافة إلى أنهم يدركون استحالة قيام دولتهم المستقلة لأسباب كثيرة معروفة جلها يتعلق بالجيران، تركيا وإيران وسورية. وإذا كانوا قانعين بقسمتهم الحالية، فإنهم في قرارة أنفسهم لا يرغبون في رؤية قيام دولة مركزية قوية في بغداد. فذاكرتهم لا تزال تنبض بالمآسي التي خلفتها في مدنهم وقراهم الحكومات المركزية في بغداد.

أما السنة الذين اصطفوا خلف إياد علاوي فلا يمكنهم القبول بحرمانهم مما بقي لهم في السلطة. وهم يلقون دعماً واسعاً من الأميركيين ومن دول الجوار، تركيا وسورية والسعودية والأردن ومعظم دول الخليج. ولا يمكنهم أن يركنوا إلى الجلوس في صفوف المعارضة فيما الأكثرية الشيعية تمسك بالقرار. ذلك يعني دفعهم مجدداً إلى الشعور بمزيد من التهميش والإقصاء. ودفعهم تالياً إلى القتال ما يوفر أرضاً خصبة لعودة فلول laquo;القاعدةraquo; وأخواتها. فضلاً عن أن الدول العربية لن تتهاون في ما تسميه خسارة ركن اساسي في النظام العربي، ولن تقف متفرجة على التمدد الإيراني. فالعراق بند أساسي في الخلافات العربية - العربية. وحتى سورية تقف في هذا المجال على طرفي نقيض مع الجمهورية الإسلامية. والحقيقة أن طهران كلما بالغت في التدخل ازداد التنسيق العربي، وازدادت الحاجة العربية إلى دور سورية في هذا البلد. تماماً كما هي الحال في لبنان. إضافة إلى اعتقاد الدوائر الغربية بأن العقوبات الجديدة على الجمهورية الإسلامية ستضاعف متاعبها الاقتصادية وتحد من قدرتها على دعم حلفائها في الإقليم، من لبنان إلى فلسطين والعراق. لكن الطريقة التي تدير بها طهران معاركها تشي بخلاف ذلك! بل ثمة من يرى أن طهران قد لا تستعجل قيام حكومة توافق أو شراكة، بعد العقوبات الجديدة التي فرضت عليها. فمثلما هي متهمة بفتح الساحة في جنوب لبنان على شتى الاحتمالات، قد يناسبها ترك الساحة في العراق مفتوحة أيضاً إذا لم تكن لها اليد الطولى في الوزارة الجديدة في بغداد.

إلى هذه العوامل مجتمعة، يبقى السؤال الكبير حول ما سيقوم به الأميركيون الذين يبدأون قريباً بسحب قواتهم من العراق. وعلى رغم أن إدارة الرئيس باراك أوباما تصر على الانسحاب من هذا البلد، وتصب جل اهتمامها على ملفات أخرى من أفغانستان إلى القضية الفلسطينية... إلى الانتخابات النصفية للكونغرس، فهل تجازف بالخروج من بغداد بعد كل التضحيات البشرية والمالية التي أهدرت؟ ألا يعنيها تسليم المقدرات إلى بديل موثوق به بدل إخلاء الساحة لإيران؟ غير ذلك يعني خسارة الأميركيين الحرب عسكرياً وسياسياً ونفطياً. فهل يسمحون لإيران مثلاً بأن تمسك بسلطة القرار في الخليج، في حين حشدوا أكثر من نصف مليون تدعمهم قوات دولية لإخراج صدام حسين من الكويت ومنعه من الإمساك بالقرار النفطي؟

لقد عجز العراقيون حتى الآن عن إقامة سلطة بديلة من السلطة التي دمرها الغزو الأميركي وورثتها المعارضة التي لم تكن لتحلم يوماً في أن تجلس على مقاعد السلطة لولا القوات الأميركية. والصيغ المتداولة اليوم لقيام الحكومة الجديدة لا تعد العراقيين بإعادة بناء دولة حقيقية قادرة على إدارة شؤونها من دون مساعدة آخرين وتدخلهم. وإن مخاوفهم من محاولات السيطرة الخارجية على البلاد، تشبه مخاوفهم من عودة الديكتاتورية... أو عودة العسكر في اسوأ الأحوال! فهل هذا احتمال وارد لا بديل منه أم أن الاستحقاقات الضاغطة والتعقيدات والأخطار التي تتهدد الإقليم ستدفع إلى قيام حكومة شراكة جديدة... في انتظار انقشاع الغيوم في الشرق الأوسط كله؟