خليل علي حيدر


أصلُ مشروع الجابري عموماً، يقول أستاذ الفلسفة العراقي المعروف د. حسام الألوسي، مبني على التخطيط للعصرنة أو النهضة. ففي مناقشة منشورة له، مع د. حسن حنفي، ذكر الجابري بأنه quot;لا نجاة لنا إلا بالمعاصرةquot;.


أما لماذا تورط الجابري في دراسة الماضي، يتساءل الألوسي، فذلك لأنه كما يقول، كان يريد أن يأخذ من الماضي نموذجاًquot;، وحين بحث لم يجد سوى ابن رشد، وذكر أن أفكاره، لا تتناسب مع فكر المشرق العربي، حيث راح يغوص في أعماق فكرنا، ويخرج بنتائج استشراقية فات أوانها، كالعقل الذري الصحراوي، ونظرية التجويز وعدم الإيمان بالسببية، والأخيرة هي صفة للأشاعرة فقط حمّلها للعقل المشرقي العربي كله، الذي سماه عقلاً بيانياً، والصوفية وسَمَها بالعقل العرفاني.

quot;وبما أن عقل البرهان لدى فلاسفتنا كان في خدمة البيان والعرفان، فإن العقل المشرقي، تبعاً لذلك، لم ينتج شيئاً، وباعتقادي أن الجابري بلغ في نقده للفكر العربي والعقل العربي حداً يفوق ما فعله أي من المستشرقين، فهو يقول إن كل ما أنتجه الفكر العربي في المشرق لا خير فيه، إنما هناك مدرسة مغربية استعملت العقلquot;.

لقد عُقدت مؤتمرات عديدة، وأُلفت كتب كثيرة على مدار قرن كامل، يرى د. الألوسي أنها بلورت أربعة محاور فيما يخص الخطاب الفلسفي والفكري العربي. هذه المحاور هي quot;العقل والعقلانيةquot;، quot;الحرية، شروطها وامتداداتها وأبعادهاquot;، quot;وكيف تكون لنا فلسفة عربيةquot;، وquot;الهم الفلسفي العربيquot;.

وهناك، يضيف، من حصر المذاهب الفلسفية مثل الباحث جميل صليبا، في ثمانية اتجاهات حتى سنة 1960، أما إبراهيم مدكور، فقال إن الفكر الفلسفي انتقل من التاريخ إلى مناقشة الأفكار.

وثمة أيضاً تقييم جيد لنا قدمه صيف نصار، يقول فيه بتقسيم المفكرين إلى مقلدين ومبدعين، على عكس الجابري، الذي يقول الألوسي quot;أعتبرهم جميعاً مقلدين سواء لليونانيين القدامى، أو للمحدثين في الفكر الغربيquot;. وفيما يتعلق بالتراث، يرى د. الألوسي أن الاتجاهات الرئيسية التي تستحق الاهتمام الأكبر هي الاتجاه التراثي الديني، والاتجاه التراثي الماركسي، والاتجاه التراثي الأبستمولوجي. ويرى في أفكار طيب تيزيني وحسين مروة تعبيراً عن المدرسة الماركسية، وفي الحركات الإسلامية الجديدة تعبيراً عن الاتجاه التراثي الديني، في حين يعالج الاتجاه الثالث من خلال محاورة quot;المدرسة المغربيةquot;، التي يمثلها الجابري.

وينتقد د. الألوسي الاتجاهات الثلاثة، ويرى أنها تجتمع في سمات مشتركة خمس هي: قراءة الماضي في الحاضر والحاضر في الماضي، سيطرة النص، الافتقار إلى المنهج السليم سواء في دراستهم للنص أو في مواقفهم من التراث، وعدم الإيمان بالتعددية. أما السمة الخامسة، فهي أن quot;معظم فلاسفتنا المعاصرين، ابتدأوا دعاة للنهضة، ثم ألهاهم التراث عن النهضة، فصارت مشكلتهم البحث في التراث نفسه، ونسوا النهضةquot;.

لقد نجح مفكرو الغرب في فرض نظرية quot;الثابت للثابت والمتحرك للمتحركquot;، وفصلوا الدين عن السياسة وإدارة شؤون الحكم، وتوصلوا إلى نتيجة سموها quot;الحكومة المدنيةquot;. quot;وبما أن الأمور دائماً متغيرة فيما يتعلق بشؤون الحياة والسياسة والتشريع، ومسائل الحقوق والواجبات، لذا فقد تركوا هذه الشؤون للدولة، في حين وضعوا الدين في خانة القيادة للقيم، وفي ممارسة الشعائر الدينية بحريةquot;.

فهل نقبل ما توصلت إليه التجربة الغربية، أم أن لنا مسيرتنا الخاصة؟ هناك عدد من الباحثين العرب، يلاحظ د. الألوسي، يثيرون نقطة! وهي أن الغرب عَبَرَ العقل ودخل مرحلة ما وراء العقل، أو الحداثة وما بعد الحداثة، كما يقال أحياناً. quot;والحقيقة أن هذا الكلام لا يصلح لنا، لأنني أعتقد أننا حتى هذه اللحظة لم ندخل مرحلة العقل. إننا نحتاج الى الفكر الفلسفي بصورته الأولى في عصر النهضة، لأننا ما زلنا في بداية الطريقquot;.

وماذا عن حوارات المثقفين العرب الإعلامية مثلاً؟ النص والموروث الثقافي هنا كذلك سيد الموقف، حتى بين quot;فلاسفة العربquot;!

يقول الألوسي: quot;منذ السبعينيات مثلاً، وحتى الآن، حدث أن سيطر النص سيطرة كاملة على معظم الدعاة، فمثلاً نشاهد أحياناً حوارات على شاشات التلفاز لأناس متفلسفين، فنراهم لا يخرجون عن نطاق النص، والكل يستشهد بالآراء - النصية -، ولا مجال للفكر، لدرجة أنك إذا أردت أن تقول إن العقل له حق أن يناقش النص فيجب أن تستشهد بنص حتى تثبت كلامكquot;!

أما نتائج هذا الاستسلام للنصوص في واقعنا الفكري والثقافي وحتى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني، فلا يمكن أن تكون سوى الجمود وقتل الإبداع.

quot;أنا أرى أن هذه المسألة مخيفةquot;، يقول الألوسي. quot;ويمكن أن تكون نتائجها سلبية للغاية، وربما أفقدتنا التنوع الفكري، وبالتالي لا يبقى لدينا سوى صوت واحد يفرض آراءه وأفكارهquot;.

ثم من يمتلك الحق في الإفتاء وتفسير النص الديني؟ هذه المسألة كذلك لم تعد واضحة في حياتنا المعاصرة. يقول: quot;ثمة خطر آخر يتصل بمسألة النص الديني، ومن الذي يحميه؟ هل هو شخص بعينه؟ باعتقادي أن الدين ليس شيئاً منفصلاً عنا، إنه أنا وأنت. فإذا افترضنا أن المناقش في أمور الدين ليس لديه مؤهلات علمية، ولا اطلاع كافٍ على روح العصر، فماذا ستكون النتيجة؟ باختصار فإنه سيحارب الجميع تقريباً، بمن فيهم أبسط مخترع علمي. والأخطر أنه سوف يسبغ على رأيه الشخصي صفة قدسية من خلال النص، لأن حق النقاش بينه وبين الآخرين يصبح ضعيفاً، ذلك أنه سيقول إنه ينطق باسم هيئة عليا، في حين أنه فعلياً يتحدث باسمه - الشخصي - فقط، وبالتالي إذا أردت أن تناقش فلا بد أن تفعل ذلك على أرضه ووفق منهجه نفسهquot;.

إن مشكلة تسلط النص على الواقع والمستقبل في المجتمعات العربية والإسلامية التي يشير الألوسي هنا الى بعض تجلياتها، ورطة تنموية تحديثية مستمرة. وقد تزداد حدة مع تزايد الفساد السياسي لدى النخب الحاكمة وتعثر التنمية وتنامي قوى التزمت. ومن المؤسف أن لا رجال الدين، ولا الشريحة المثقفة التنموية، تطرح رؤى عملية صريحة، أو تجرؤ على تقييم النصوص وإلحاقها بزمانها.

لقد ظهرت الحركات الدينية بالذات، في رأي الألوسي quot;كرد فعل على واقع الهزائم والإرهاق، وانغلاق أو فشل البدائل والحلول للخلاص من هذا الواقع الذي تعيشه أمتناالعربيةquot;. أما موقفنا من التراث، والذي نرفض تشريحه ونقده، فهو يندرج، يقول quot;ضمن إطار النظرة اللاتاريخية، أو اللاموضوعية، القائمة على الثباتquot;. وربما قلنا استطراداً لرأي د. الألوسي هذا، إن تفاقم مشاكل الفقر، وتعثر برامج التنمية ووقوع الأنظمة الوطنية في براثن الفساد، من الظواهر المشاهدة في الكثير من بلدان العالم الثالث. ولكن جواب أو رد فعل تلك المجتمعات في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية لا تكون بالعودة إلى التراث والدين على النحو الذي نراه في مجتمعاتنا.

ونعود لرؤية الألوسي فنراه يقول: quot;لعلي أتوقف هنا أمام مفارقة عجيبة، فالذين دعوا الى حكومة مدنية، وسموها quot;علمانيةquot;، قُبل أمرُهم في النصف الأول من القرن العشرين، بعكس الوقت الراهن. كما أن بعض الجماعات الدينية آنذاك أدخلت من التجديد الى المجتمع العربي الإسلامي، أكثر مما استطاع أو أراد دعاة الحضارة أنفسهم، لأنها اتبعت نهجاً واضحاً يقوم على الأخذ بأسباب الحداثة الموجودة وعلى تأويل النص القديم. وأتذكر أن أحد طلابي أجرى دراسة ذات مرة على حزب إسلامي سابق في السودان، وكان في أطروحات هذا الحزب آراء واجتهادات تفوق أية علمانية حديثةquot;.

وطالب المحاضر بأن نأخذ في مناهجنا التعليمية خاصة بالواقع الدولي الحديث ومنظماته وقوانين حقوق الإنسان لـ quot;أننا ملزمون بها شئنا أم أبينا، فنحن مثلاً لا نستطيع اليوم أن نضع مناهج دراسية متعارضة مع منهج اليونسكو، لأنها لن تعترف بشهاداتنا، ولذا فنحن محكومون بقوانين ولوائح عالميةquot;.