عبدالرحمن الوابلي

إن أي قراءة عالمة وسوية لأي نص دستوري، سماويا كان أو بشريا، تاريخيا أو حديثا، بغرض فهمه والتمكن من استنباط مواده بشكل صحيح، وكيف تمت صياغتها وتقبلها، تتوجب الفرز الواعي بين الجانب النظري (المبادئ) منه، وبنفس الوقت، الجانب التطبيقي منه (مواده التقنينية) الواردة فيه، والتي أتت إما مطابقة أو مقاربة لروح مبادئه، المنصوص عليها في الجانب النظري. ويكمن الخطأ الفادح عندما، تتم قراءة الجانب التطبيقي من أي نص دستوري، بمعزل عن فهم الجانب النظري منه، والذي على أساسه تمت صياغته، وتكمن به مفاتيح فهم مواده ومعالجته.
كما أن أي نص دستوري تاريخي أو حديث، يأتي كاستجابة لإحداث تغييرات جذرية وجديدة، لفصل زمنه عن زمن ما قبله، ويشرع لثقافة حقوقية جديدة، مفارقة لما قبلها، من ناحية الحقوق والواجبات للناس، ولذلك فمبادئه (الجانب النظري) منه، هي خير معبر عنه، وخير مقياس لمدى التزام وموافقة مواده التقنينية (الجانب التطبيقي)، منه؛ وعليه قياس الثابت منها من المتحول، أو المراد منها التحول تدريجياً، لتتواءم مع روح مبادئه (الجانب النظري منه)، في أقرب زمن ممكن، أو فرصة ممكنة.
حيث يستحيل على أي نص دستوري، تغيير القوانين الفاعلة في المجتمع الذي أتى بغرض تغييره، بطريقة حدية وجذرية، بسبب ظروف اقتصادية واجتماعية وحتى سياسية قوية وضاغطة، لا مجال لتغييرها، بدون تدرج في ذلك. وهنا تأتي مهمة الجانب النظري (المبادئ) العليا التي يؤكد عليها النص الدستوري، ولا يجامل أو يتدرج فيها.
وكمثال على ذلك، قصة المؤلفة قلوبهم، في بداية وصدر الإسلام، وتخصيص جزء من الزكاة لهم. والتي أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وألغاها عنهم، برغم ورودها كمادة تقنينية في القرآن الكريم، لا تقبل التأويل ولا التحريف، وكذلك مسألتا منع عمر زواج المتعة وإيقاف العمل بحد قطع يد السارق، في عام المجاعة. وهذا يدل دلالة قاطعة على أن المسلمين الأوائل يفرقون بوعي بين الجانب النظري (المبادئ)، والجانب التطبيقي (التقنيني)، من القرآن الكريم، وماذا يقدس ويحافظ عليه منها، وما وضع من أجل مراعاة ظرف زماني معين. كما نعلم علم اليقين، أن الخليفة عمر كذلك، لا يمكن أن يهادن أو يناقش أو يناور في المبادئ الأساسية التي وردت في القرآن الكريم، وركز عليها، كالعدل والمساواة، ودفع الظلم والغبن عن الناس، وحتى لو لم يكونوا من المسلمين. وبغير هذه القراءة العمرية الكلية الواعية للقرآن، تظهر لنا نصوص متناقضة ومتضاربة فيه.
وقد ركز المسلمون على الجانب التطبيقي (التقنيني) من القرآن وذلك في القرنين الثاني والثالث الهجري، عندما توسعت الدولة الإسلامية وتشعبت الحياة فيها، وجدت عليها مستجدات، فرضت على المسلمين، مراعاة الجوانب الشرعية منها. وظهر علماء، جندوا أنفسهم لدراسة الشريعة من مصادرها الأولية القرآن والسنة وأقوال وأفعال الصحابة والتابعين، وفهمها من الناحية (التقنينية)، مثل الأئمة مالك وجعفر الصادق وأحمد والشافعي وأبو حنيفة، رضوان الله عليهم. وأصبح لهم تلامذة ولتلامذتهم تلامذة، وأصبح لكل مدرسته الفقهية التي سميت باسمه. ولا شك أن هذه المدارس والتي سميت مذاهب فقهية، خدمت ومازالت تخدم المسلمين، من نواح شرعية عدة، لا غنى عنها، في مجال العبادات وكثير من المعاملات. ومما لا شك فيه أيضاً، أن هذه المدارس أو المذاهب الفقهية، كانت تعبر عن أوضاع مناخاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ والتي لم تكن تعنى بأي هم حقوقي يذكر للناس في حينها.
وفي القرن الخامس للهجرة تم قفل باب الاجتهاد، بقرار سياسي، والعمل بالمذاهب الفقهية الموجودة حتى آنذاك. وبعدها أخذت المذاهب الفقهية تعيد نفسها، إلا من استثناءات هنا وهناك، لا يمس أي منها الجوانب الحقوقية العليا للإنسان، التي هي واضحة وجلية في الجانب النظري من القرآن الكريم. وعليه تم تفعيل الجانب التطبيقي (التقنيني) من القرآن، على حساب جانبه النظري (المبادئ) منه؛ وأخذ جانب القداسة بدلاً عنه.
إذاً فعندما تم اختزال الدين بالفقه، فمن الطبيعي أن يتسيد الفقيه المشهد الشعبي الإسلامي، لا المفكر المسلم ولا الداعية الإصلاحي. وعليه اعتبر الفقيه نفسه هو الوصي والمحافظ على الإسلام، وأن المسلمون يجب بأن يكونوا أتباعا له. وقد قابل هذا الوضع، المقلوب، هوى في أنفس السياسيين حينذاك، والذين قربوا منهم الفقهاء، واستبعدوا المفكرين والمصلحين، من الساحة والمشهد الشعبي، منذ القرن الخامس الهجري.
وعليه فقد اختزل الإسلام بتراثه الفقهي، واعتبر محوره وأساسه؛ وهمشت رسالة الإسلام العظمى والتي هي محوره الأساس وعصبه الحساس، والمتمثلة بقيم العدالة والمساواة والحرية، والتي على أساسها يتشكل ويتغير الفقه لا على نقيضها. وخُلق على هذا تنافس بين الفقهاء والمدارس الفقهية، في تغليب جانب مذهبها على ما سواه، والتي على أساسها تكبر شرعيتهم وصلاحياتهم في المشهد السياسي والشعبي معاً. وعليه تم تقديس المنظومات الفقهية المحلية، وتم اختزال الدين بفقهه أكثر فأكثر.
وهنا كمنت أزمتنا المضاعفة، كمسلمين مع الفقه التقليدي الذي نحكم به، والذي عزل عن جانبه النظري (المبادئ العليا) التي أكد عليها القرآن في أكثر من موضع. ومن ناحية أخرى، اقتطع من زمانه الحالي، ليحكمنا بظروف أزمنة سابقة علينا. ولذلك فليس بالمستغرب أن، تختزل شرعية مسألة مهمة مثل الزواج فقهياً، من مبادئها التي شدد عليها القرآن في أكثر من موضع، مثل السكينة واللباس والمحبة والمودة ودرء السفاح، بطقوس عقد القران، مثل الشهود والرضا والصداق. ولذلك أتت المسألة معاكسة لروح مبادئ الإسلام، فأصبحت كل الزواجات مباحة، كالمسيار والمسفار وبنية الطلاق والمتعة والعرفي وزواج القاصرات، ما دام هنالك شاهدان وصداق ورضا بين الطرفين أو أولياء أمورهم.
وأكثر من وقع ضحية للفقه التقليدي هن النساء، حيث معظم حقوقهن التي وردت في القرآن هي حقوق مرحلية، ليتقبلها المجتمع، آنذاك، ويتخطاها لاحقاً، حسب اللحظة المناسبة، ويعيدها لهن حسب ما أكد عليه الجانب النظري (المبادئ) في القرآن. ولكن تأخر تطور وضعها في المجتمع، لكل هذه القرون جعل الفقه المتعلق بقضاياها، لا يتغير. وخاصة كون الفقه التقليدي يأخذ بالأعراف ويراعي المصالح المهيمنة، (المصالح الذكورية)، وأصبح وضعها ثابتا من ثوابت الفقه التقليدي المقدسة، والتي لا يجب المساس بها.
وكان من المفترض أن يحدث مع مسائل المرأة مثل ما حدث مع مسألة الرق، والذي تم إلغاؤه، مع ورود تقنيناته، كنصوص في القرآن الكريم. وذلك لعدم توافقه مع روح المبادئ التي أكد عليها القرآن، العدل والحرية والمساواة، والذي توافق إلغاؤه مع روح العصر كذلك، ولو بعد ألف وأربعمئة سنة. أفليس جديرا بمجامعنا الفقهية إعادة النظر في بعض ما يخص فقه المرأة لتخرج علينا بفقه جديد، يتماشى مع روح مبادئ القرآن الكريم، وروح العصر ومعطياته؟