وليد نويهض

بعد عودة رئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى تل أبيب حاملاً معه راية المصالحة مع الرئيس الأميركي باراك أوباما بدأ بشن هجوم معاكس ينشط ميدانياً على مسارات متوازية دبلوماسية وسياسية وإدارية واستيطانية.

المسارات الإسرائيلية تبدو متناقضة ولكنها في مجموعها العام متجانسة في أهدافها لكونها تصب في خدمة المشروع التهويدي للقدس الذي يريد نتنياهو تنفيذه بسرعة حتى يعدل هوية المدينة ويضمن بقاء الوجود الاستيطاني في الضفة وتنميته عمودياً وأفقياً في السنوات المقبلة.

هذا الهدف المركزي في المشروع الإسرائيلي يتطلب حتى ينجح اتخاذ خطوات ميدانية مرحلية تسمح بتمرير الخطة من دون ممانعة أو مقاومة مدنية أو قتالية. لذلك تتجه تل أبيب نحو استثمار الخلاف بين حماس وفتح وتوظيفه في خطة فصل القطاع عن الضفة وتشجيع اتجاه رفض المصالحة مع السلطة الفلسطينية من خلال تقديم خدمات تساعد على الاستمرار في نهج الانقسام.

خطة وزير الخارجية ليبرمان كما يبدو ليست مجرد كلام للمزايدة أو المتاجرة وإنما هي وصفة حقيقية بدأت تأخذ بها حكومة نتنياهو ويمكن أن تتحول إلى سياسة مشتركة تؤدي إلى تخليق كيان صغير (كانتون) يعزل غزة عن رام الله ويعطي فرصة زمنية لتل أبيب حتى تنفرد بالضفة والقدس وتبدأ بالتفرغ الكامل لتنفيذ خطة تهويد المدينة وتعديل الخريطة السكانية في الأراضي المحتلة في العام 1967.

خطة عزل القطاع وتسويره ومنعه من التواصل مع الضفة تتقاطع ضمناً مع فكرة الإمارة المستقلة لأن غاية laquo;إسرائيلraquo; تتركز حالياً على مشروع تطوير الاحتلال في الضفة وتعطيل طموحات السلطة في انتزاع حق تشكيل دولة فلسطينية ذات سيادة وقابلة للحياة. وحتى تمنع تل أبيب نجاح هذا الطموح الفلسطيني لابد لها من فصل القطاع وتقطيع أوصال الضفة من خلال استكمال خطة توسيع المستوطنات وتهويد القدس.

المسألة إذاً ليست ماذا تريد حماس من الإمارة المستقلة وإنما ماذا تريد laquo;إسرائيلraquo; من خطة فصل القطاع عن الضفة؟ الهدف يحدد الوسائل وبما أن غاية تل أبيب تتركز الآن على تغيير معالم الضفة تصبح معركتها الأساسية مع سلطة رام الله حتى لو أدعت العكس. تل أبيب تعتبر غزة خارج مشروعها الاستيطاني في المرحلة الراهنة وهي أكدت مراراً أنها لا تريد التوسع السكاني في قطاع مكتظ بالبشر ويعاني من شح المياه وضعف في المصادر الزراعية.

لهذه الاعتبارات الموضوعية واللوجستية تعتبر تل أبيب أن معركتها الأساسية تتركز الآن في الضفة وضد السلطة الفلسطينية وحركة فتح، لذلك فهي لا تتردد في استغلال الانقسام والانفصال والتشرذم لإعادة توظيفه واستثماره في ساحتها ومشروعها الأصلي وترك القطاع يتدبر أمره بعيداً عن القضية الفلسطينية.

المعركة إذاً ستكون مع رام الله وهي مرشحة بالتصاعد سياسياً ودبلوماسياً في المرحلة المقبلة سواء كانت المفاوضات laquo;غير مباشرةraquo; أو laquo;مباشرةraquo; لأن المشكلة ليست في الشكل وإنما في مضمون المشروع الاستيطاني وتمدده على مساحات محددة في الضفة والأحياء العربية في القدس.

خطة ليبرمان في غزة ليست عفوية وإنما جاءت في سياق مبرمج يحاكي المشروع الذي تقوده حكومة نتنياهو ضد السلطة الفلسطينية من خلال عزلها عن القطاع وتقطيع أوصال الضفة وتغيير هوية القدس ما يشكل نقاط ضغط تضعف حلم الدولة المستقلة ويجدد فكرة إعادة الاحتلال ودمج شريط الاستيطان بأراضي 1948.

هناك إذاً مسارات إسرائيلية متوازية دبلوماسية وسياسية وإدارية واستيطانية تسير على خط مشترك وباتجاه غاية محددة في المرحلة الراهنة وهي منع السلطة الفلسطينية من تحقيق هدفها القاضي بتأسيس دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة والاستقرار. وهذا الهدف الإسرائيلي المركزي يتطلب من تل أبيب حتى تضمن نجاحه تقديم تنازلات شكلية في غزة لتتفرغ إلى معركتها الأساسية في الضفة والقدس.

بين الرئيسي والثانوي المركزي والفرعي ستظهر في المرحلة اللاحقة وخصوصاً بعد انتهاء أوباما من امتحان الانتخابات النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل مفارقات سياسية ستكشف عن نمو الضغط الدولي على السلطة الفلسطينية في الضفة وتراجعه عن غزة باتجاه عزلها وفصلها عن القضية. وهذا الموضوع في النهاية ليست له علاقة بالإيديولوجيا والكلام الفارغ والفضفاض وإنما له صلة بالمشروع الصهيوني في طوره الراهن. فالمشروع لا يضع غزة ضمن أهدافه وإنما القدس والضفة وبالتالي فإن الضغط سيتركز في الدائرة التي تطمح تل أبيب إلى كسرها أو إضعافها حتى تفقد إمكانات القدرة على مواصلة التفاوض سواء كان شكل القناة الدبلوماسية مباشرة أو غير مباشرة. فالموضوع لاعلاقة له بالشكل أو بالكلام الإيديولوجي بقدر ما هو يتصل بالمشروع وأدوات تنفيذه على الأرض بغض النظر عن اسم الجهة وعنوانها.

المصادفة ربما تكون لعبت دورها في فرز الأدوار بين السلطة في الضفة والقدس مقابل حماس في غزة إلا أن التعامل مع الوقائع يؤشر إلى أن معركة نتنياهو-ليبرمان ستكون مع رام الله في اعتبار ميدان المشروع الإسرائيلي ينشط الآن على تهويد المدينة وتوطين المهاجرين في بؤر الاستيطان في الضفة. وبما أن المصادفة الجغرافية بدأت تفرض شروطها السياسية على المعادلة الفلسطينية بالمزيد من الضغوط الدولية على رام الله للقبول بخدعة المفاوضات المباشرة بات على حركة فتح ومنظمة التحرير وجامعة الدول العربية أن تستعد للقيام بخطوات تظهر مدى العزم والاستعداد لمواجهة خدعة شراء الوقت التي لا تريد بناء الثقة كما تزعم وإنما هدم جسور الثقة التي تربط الضفة بالقطاع في وقت يستمر مشروع التوطين وتقطيع الأوصال في مناطق الاحتلال.

المرحلة المقبلة ستكون قاسية جداً على المسار الفلسطيني وتحديداً في إطار المواجهة الدبلوماسية مع سلطة رام الله. فالمعركة ستحمل معها أنباء قد تكون مفاجأة لأصحاب الإيديولوجيا والرؤوس الحامية ولكنها ليست كذلك لكل من يفكر ويبصر.