عصام نعمان

أزمة لبنان المزمنة، بطبعتها المنقحة، مستمرة ومتفاقمة . طرفا الأزمة حزب الله من جهة والغرب الأطلسي، بقيادة الولايات المتحدة، من جهة أخرى . تؤيد حزب الله، بما هو قائد المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وتحالفه القوى القومية والوطنية الناهضة إلى التحرير ومواجهة قوى الهيمنة الدولية والإقليمية، كما تدعمه سوريا، بينما تنضوي تحت لواء الغرب الأطلسي ldquo;إسرائيلrdquo; وقوى سياسية محلية لها مصلحة في استمرار نظام لبنان الطائفي الفاسد .

موضوع الأزمة القرار الظني أو الاتهامي المزمع صدوره عن المدعي العام لدى المحكمة الدولية الخاصة بلبنان دانيال بلمار . فقد أكدت أسبوعية ldquo;دير شبيغلrdquo; الألمانية وصحيفتا ldquo;لوفيغاروrdquo; وrdquo;لوموندrdquo; الفرنسيتان وصحيفة ldquo;السياسةrdquo; الكويتية، في أوقات متتابعة، أن القرار المنتظر سيتضمن اتهاماً صريحاً لعناصر في حزب الله بالمشاركة في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تخطيطاً وتنفيذاً . فوق ذلك، صرح رئيس أركان الجيش ldquo;الإسرائيليrdquo; الجنرال غابي أشكينازي قبل أسبوعين ان القرار الاتهامي سيُدين حزب الله ما سيتسبب بفتنة أهلية في البلد .

سبق ورافق وأعقب تقولات الصحف وتصريحات أشكينازي نجاح مديرية الاستخبارات في الجيش اللبناني في كشف نحو 22 شبكة تجسس في أقل من سنتين، تضم عملاء مزروعين في قطاع الاتصالات، ثبت أنهم زودوا العدو الصهيوني ldquo;داتاrdquo; ومعلومات مفبركة تسيء إلى حزب الله من حيث اتهامه باغتيال الحريري .

أكثر من ذلك، تبيّن أن ldquo;المعلوماتrdquo; المفبركة التي وردت في الصحف المشار إليها، كما في تصريح الجنرال ldquo;الإسرائيليrdquo; مصدرها أيضاً ملف كان وضعه أحد أركان ldquo;فرع المعلوماتrdquo; في قوى الأمن الداخلي النقيب وسام عيد، وفيه ldquo;معطياتrdquo; تشير إلى ضلوع عناصر من حزب الله في عملية الاغتيال . خضوع ldquo;فرع المعلوماتrdquo; لرئاسة الحكومة من جهة، واغتيال النقيب عيد من جهة أخرى، حملا القوى المعادية لحزب الله على اتهام الأخير بأنه وراء اغتيال عيد .

أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله كشف في خطبته الأخيرة أن ثمة رابطاً بين المعلومات التي فبركها عملاء ldquo;إسرائيلrdquo; في قطاع الاتصالات وبين الحملة الواسعة التي يشنها عليه الغرب الأطلسي، وطرح أسئلة محددة، طالباً من رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الداخلية زياد بارود الإجابة عنها لتوضيح دور ldquo;فرع المعلوماتrdquo;، ومسؤوليته في كشف العملاء أو التستر عليهم .

علّق أعضاء كتلة ldquo;المستقبلrdquo; الحريرية، منفردين ومجتمعين، على كلام السيد نصر الله بعنف كلامي لافت، ما استوجب رداً من العيار ذاته من نواب حزب الله وحلفائه . وإزاء مكابرة قوى 14 آذار المتحالفة مع الحريري وتهوينها من دور عملاء ldquo;إسرائيلrdquo; في قطاع الاتصالات، قام الأمين العام لحزب الله بعقد مؤتمرٍ صحافي مساء الخميس الماضي، وضع فيه الكثير من النقاط على الكثير من الحروف .

يتضح مما قاله السيد نصرالله أن حزب الله ماضٍ في هجومه المعاكس على الحملة التي يشنها عليه الغرب الأطلسي، وأن هدف الهجوم تعطيل المحكمة الدولية بعدما أضحت أداة الحملة الأطلسية الصهيونية للنيل منه .

كيف يمكن تعطيل المحكمة؟

ثمة طرائق عدة في هذا المجال أبرزها ثلاثة:

أولاها، كشف المزيد من الحقائق والمعلومات عن العملاء والجواسيس الذين يقومون بالتلاعب بشبكات الاتصالات السلكية والخلوية، واستخدامها في فبركة بيانات ومعلومات، وتزويد أجهزة التحقيق في المحكمة الدولية بها لتصبح ldquo;أدلة ثبوتيةrdquo; يمكن استخدامها لاتهام حزب الله بأفعال جرمية . وليس من شك في أن كشف هذه المعلومات المفبركة والضالعين فيها يطعن صدقية المحكمة وهيبتها، وقد يحمل المدعي العام بلمار على تأجيل إصدار قراره الظني، أو ربما صرف النظر عنه، عاجلاً أو آجلاً .

ثانيها، شن حملة وطنية وشعبية تطالب بوقف تمويل المحكمة، كما تُطالب القضاة اللبنانيين في مختلف أجهزتها بالاستقالة منها، وذلك على أساس أنها فقدت صدقيتها ونزاهتها ومهنيتها، وأضحت أداةً في أيدي من يتربصون بلبنان لإشعال نار الفتنة في مجتمعاته . واللافت أن أحد أحزاب المعارضة الوطنية، الحزب السوري القومي الاجتماعي، دعا رسمياً إلى ldquo;سحب القضاة اللبنانيين من المحكمة الدولية، وباسترداد الملفات التي يتخذ منها ما يسمى المجتمع الدولي ذرائع لتهديد أمن لبنان واستقراره، وأول هذه الملفات ملف المحكمة الدوليةrdquo; .

ثالثتها إسقاط حكومة سعد الحريري باستقالة وزراء المعارضة منها . ذلك أن للمعارضة ما يزيد على ثلث عدد أعضاء الحكومة، والدستور يعتبرها مستقيلة إذا فقدت ثلث مجموع أعضائها . غير أن قادة المعارضة يحاذرون اللجوء إلى هذا الخيار ضناً بالوحدة الوطنية التي ستتصدع بالتأكيد إذا ما تصلّب الحريري وحلفاؤه في شأن المحكمة ومستقبلها . لكنهم سيجدون أنفسهم مضطرين إلى سلوك هذه الطريق في حال توفر شرطين: استمرار الحريري في تصلّبه، وموافقة وليد جنبلاط وكتلته النيابية على هذا الخيار، ما يوفّر للمعارضة أكثرية مريحة في مجلس النواب .

يتردد أن الحريري استبق موقف حزب الله والمعارضة من المحكمة الدولية بالارتماء في أحضان سوريا، وأنه نال وعداً من الرئيس بشار الأسد بتهدئة حزب الله وإقناعه بالمحافظة على وحدة الحكومة كسلاح في وجه الحملة التي يشنها الغرب الأطلسي على الحزب والبلد . غير أن قيادات سياسية واسعة الاطلاع كشفت أن الأسد ووزير الخارجية وليد المعلم أكدا لكل من حاول جس نبض القيادة السورية في موضوع المحكمة الدولية أن أية تهمة توجّه إلى حزب الله إنما توجه إلى سوريا . من الواضح أن أية محاولة من جانب دمشق للتوسط بين حزب الله والحريري يجب أن تضع في الاعتبار مسألتين بالغتي الأهمية . الأولى، تصميم حزب الله على تعطيل صدور قرار ظنّي أو اتهامي ضده لئلا يصبح أداةً في أيدي أمريكا وrdquo;إسرائيلrdquo; للنيل منه على المستويين الإقليمي والدولي، وبالتالي تبرير محاولة ضربه وإخراجه من ميدان الصراع . الثانية، أن المحكمة الدولية باتت المرتكز الأساس لسياسة الحريري ولصدقيته في وسطه الإسلامي السنّي، الأمر الذي يمنعه من التفريط بها .

لعل المخرج الممكن من هذه المعضلة هو في إقناع الحريري بالوقوف إلى جانب حزب الله وحلفائه في التنديد بأسلوب التحقيق الذي اتبعه المحققون اللبنانيون والدوليون قبل إحالة الملف على المحكمة الدولية بشخص المدعي العام بلمار، وبالتالي التنديد بامتناعها عن محاكمة شهود الزور الذين افتروا على سوريا بادئ الأمر، ثم استداروا لاتهام حزب الله بعد ذلك، وصولاً إلى الإعلان جهاراً نهاراً، وقبل صدور القرار الظني أن آل الحريري، أسرةً وتياراً سياسياً وكتلة نيابية، يؤكدون براءة حزب الله، قيادةً ومقاومة وأعضاء، من شبهة أو تهمة اغتيال الحريري، واستعداده، أي الرئيس الحريري، إلى وقف تمويل المحكمة الدولية، ومطالبة القضاة اللبنانيين بالاستقالة من أجهزتها إذا ما صدر قرار ظني يسيء إلى حزب الله بغير وجه حق .

يتخذ الحريري هذا الموقف فيحفظ وحدة البلاد والعباد في وجه دولة العدوان الصهيوني، وينقذ حكومته ومستقبله السياسي، أو يمتنع فيفسح في المجال أمام المعارضة الوطنية لإسقاط حكومته والاستعاضة عنها بحكومة إنقاذ وطني، متماسكة وقادرة على مواجهة العدوان الصهيوني المرتقب بوضع شعار ldquo;وحدة لبنان شعباً وحكومةً وجيشاً ومقاومةًrdquo; موضع التنفيذ، بعيداً عن أحصنة طروادة الحكومية التي صالت وجالت خلال 33 يوماً في حرب ،2006 قبل أن تحطّ رحالها في السفارة الأمريكية تحت مظلة وزيرة الخارجية السيئة الصيت كوندوليزا رايس .