طيب تيزيني
يتعاظم الأسى والاضطراب في المجتمعات البشرية، كلما ازداد الظلم وتفككت منظورات القيم وقلَّ الأمان، وتحول الموت إلى خلاص لذوي الضمائر الحرة. وواقع الحال في معظم العالم العربي يشير إلى وجود تلك الظواهر وإلى اجتياحها فئات واسعة من الناس. وضمن جماعات آخذة في التأثر، راحت الفكرة التالية تلوّح بظهورها بقوة وتسارع، تلك هي التي ستقتلع مثلاً عريقاً من تاريخنا وراهننا وهو: الحرة لا تأكل بثدييها!
فالهجوم الكاسح، الذي يقوم به quot;المجتمع الاستهلاكيquot; على جموع من الناس من كل الطبقات والفئات، يضع هدفاً استراتيجياً أمامه، هو اختراق هؤلاء في ضوء تفكيك منظومة القيم، التي درجوا عليها، بحيث باتت هشّة يمكن اللعب عليها في زحمة quot;السوق الجديدةquot;.
وإذا أضفنا إلى ذلك واقعة يلاحظها الناس هي تنحِّي quot;الوطنquot; لصالح تحوله إلى سوق، فإننا سندرك مصداقية التيار المتصاعد والمعبّر عن أن الحكم السياسي في البلدان العربية المعنية يعيش راهناً حالة من القلق، وذلك خصوصاً ضمن العلاقات القائمة عمقاً وسطحاً بين البلدان المذكورة من طرف، وبين النظام العالمي الجديد من طرف آخر. فهذا الأخير الذي رفع سلاحه (الاستباقي) في وجه العالم العربي.
ولعلنا نصوغ أهم ما عنيناه مما أتينا عليه في الفرضية القوية التالية: إن زعزعة الأوضاع الداخلية العربية أمر خطير، بقدر ما يجب أن يرتبط ذلك بإمكانيات قابلة لتحويلها إلى وقائع. إذا ما اقتضى الأمر. أما المهم في تلك الإمكانات فقد يكون زعزعة السلطة العليا وإظهارها فاسدة، خصوصاً إذا درست هذه السلطة في سياقها التاريخي عبر المُتعاقبين عليها. هنا يبرز ابن خلدون فيما اعتبره quot;قانوناًquot; لعلمية تفكيك سلطة ما في لحظة مناسبة ما، ومن خلال استهداف رأسها. وابن خلدون يضع ذلك (في مقدمته لكتابه تاريخ العِبَر) في إطار زمني، يتحدد بأربعة رؤساء كبار، يأتي ترتيبهم، بالنسبة إلى تفكك وانهيار البلد الذي يحكمونه، على النحو التالي: (الباني والمباشرِ والمقلّد والهادم).
وقد صاغ ابن خلدون قانونه ذاك المذكور في ضوء التجارب، التي كوّنها من تعاقب الحكام والسلالات التي عاصرها، وربما عبر تقصي سلالة الموحّدين وفحص حيثياتهم، التي أفضت إلى سقوطهم بعد تتالي أربعة رؤساء لها.
ويرى الدكتور انطوان سيف (لبنان) أنه بسبب أن نهاية تلك السلالة (الدولة) غير الحاسمة وغير الواضحة، فإن ابن خلدون أعلن مدقِّقاً: quot;وقد يتصل أمره (أي الرئيس) إلى الخامس والسادس، إلا أنه في انحطاط وذهابquot;. ويعلق على ذلك الدكتور سيف، فيقول: quot;وهذا يؤكد أيضاً، عند ابن خلدون، قانونه المذكور حول استمرار بعض الدول، مع انفصال بعض الأطراف عن المركز - ضمن كتاب للباحث سيف بعنوان (وعي الذات وصدمة الآخر).
وإذا وضعنا يدنا على مواضع الاضطراب والفساد والإفساد القائمة والمحتملة في المجتمعات العربية المعاصرة وإمكانية تحولها أو تحويلها إلى قوة تدميرية قاتلة، فإنه لم يعد الرهان على بقاء الرؤساء قائماً بسبب دعمهم من قِبل قوى تلك المواضع، إلا في حالات معينة. أما ما عدا ذلك، فإن الرهان على القوى الوطنية الخيّرة هو الأقوى والأبقى. فالحكام في مجتمع يحكمه الاضطراب والفساد أولى بهم أن تنالهم عناصر الفساد هذه، على عكس من يحتمي بالشعوب وبالقوى الخيرة.
درس ابن خلدون قمين أن يُفهم بعمق، وهذا ما تحتاجه المجتمعات العربية الراهنة تحت عنوان الاستحقاق الكبير: مشروع الإصلاح والتحديث الوطني الديمقراطي.
التعليقات