محمد جابر الأنصاري
أسوأ ما يمكن أن يتوهمه شعب من الشعوب هو الوهم القائل (والقاتل) : بما أن الديمقراطية أصبحت laquo;موضةraquo; عالمية، فإنها آتية إليه حتماً ... هكذا ببساطة وسلاسة!
هذا وهم خادع !
لا تأتي الديمقراطية لشعب من الشعوب على طبق من ذهب. فلابد من laquo;زرعهــاraquo; وlaquo;استنباتهاraquo; في البيئة المجتمعية المحلية، ثم رعايتها وتعهدها بالسقي. إلى أن يشتد عودها وتصبح شجرة خضراء ويانعة. وعند بلوغ هذه المرحلة لابد من تشذيب وتهذيب وري الشجرة لتبقى ولا تتعرض للذبول ... ولابد أن تباشرها قوى المجتمع المدني المحلي المعني، ولا فائدة من الاعتماد على laquo;الخارجraquo;. فقوى الخارج laquo;تتأرجـحraquo; بين مبادئها الديمقراطية ومصالحها الخاصة ومواقفها تتغيّر حسب هذا laquo;التأرجحraquo;.
أقرأ هذه الأيام تاريخ نمو وتطور الديمقراطية البريطانية، أعـرق وأقدم ديمقراطيات العالم . وهي ديمقراطية علينا أن نتنبه إنها مورست داخل حدود بريطانيا فحسب، ولم يحرص عليها أصحابها في أرجاء الإمبراطورية الواسعة ... التي لم تكن تغيب عنها الشمس ... ولكنا لم نجد في أقطارها شروقاً لشمس الديمقراطية إلا بجهد شعوبها، ابتداء من حركة سعد زغلول في مصر، وحركة المهاتما غاندي في الهند، بين حركات أخرى ...
ومن قراءتي لتاريخ الديمقراطية البريطانية داخل بريطانيا أصاب بالذهول ... كم كانت تحتاجه الديمقراطية من قرون حتى ترسخ وتتعزز!
ومن حسن الحظ إذا كانت الديمقراطيات القديمة تحتاج إلى قرون كي تنمو، فإنها في أيامنا لا تستغني أقلها عن عقود لكي تنمو ويشتد عودها.
وعندما توجهت كل من الولايات المتحدة وفرنسا إلى laquo;النظام الديمقراطيraquo; بعد laquo;الثورة الأمريكيةraquo;، وlaquo;الثورة الفرنسيةraquo;، كانت قوى المجتمع المدني في كلا البلدين نامية تماماً، ومستعدة لحمل العبء الديمقراطي، وكانت البُنية التحتية الإنمائية فيهما متنامية وناضجة، وكان التكوين السياسي، لهما كدولة قوية، قد اكتمل وتم احترامه ...
وعودة إلى تاريخ نمو وتطور الديمقراطية البريطانية، التي شهدنا مؤخراً فيها، عـودة laquo;المحـافظينraquo; إلى استلام السلطة بعد تراجع قبضة laquo;العمـالraquo;، نجد إن هذه الديمقراطية يمكن laquo;التأريخraquo; لبدايتها مطلع القرن الثالث عشر الميلادي بإصدار الملك جون للماغنا كارتا ndash; أي الميثاق الأعظم باللغة اللاتينية التي كانت سائدة في حينه ndash; وذلك عام 1215 للميلاد ولم يكن الماغنا كارتا وثيقة ديمقراطية مكتملة، (وبريطانيا سارت على العُرف الدستوري، وليـس لديها laquo;دستورraquo; كالدول الأخرى)، فقد كان الماغنا كارتا تعاقداً سياسياً بين المؤسسة الملكية الحاكمة في بريطانيا وبين laquo;الباروناتraquo; من ملاك الإقطاعيات الزراعية حيث تعهد فيها الملك لأولئك بعدم زيادة الضرائب عليهم، إلا بعد موافقتهم بالإضافة إلى تأكيد تلك الوثيقة (التي يمكن قراءة نصها الكامل في موضعها الأبجدي من الموسوعة البريطانية) على مبدأ laquo;حريةraquo; الكنيسة واستقلالها وحرية التجار في التنقل واستيراد ما يريدون من بضائع حسب القوانين الجمركية المعتمدة.
كان الماغنا كارتا بداية ... وبداية فقط. ويلمس المرء من قراءته للتاريخ السياسي البريطاني، إن الوثيقة لم تحسم الكثير. فقد طرأ نزاع كبير وحروب أهلية خطيرة بين المؤسسة الرسمية والبرلمان مدعوماً بالقوى المؤيدة له، وتم إرسال laquo;قادة المتصارعينraquo; من الجانبين إلى ساحات الإعدام ndash; بطريقة غير ديمقراطية! ndash; ثم دخل القائد العسكري كرومويل في المشهد السياسي وأوقف العملية الديمقراطية لسنوات، ومن بعده استمر الصراع والشد والجذب ... ولم يصل، مثلاً، حزب العمال، الذي يمثل القوى العاملة في بريطانيا إلى السلطة إلا عام 1924 عندما شكل الزعيم العمالي المنتصر laquo;رمزي ماكدونالدraquo;، في الانتخابات البرلمانية، الحكومة لأول مرة في تاريخ بريطانيا. ولأول مرة في تاريخها أيضاً، استطاعت المرأة البريطانية التصويت في الانتخابات العامة سنة 1928 ومازالت الديمقراطية البريطانية تنمو وتتطور، فهم مازالوا laquo;يتناقشونraquo; هناك إن كان laquo;مجلس اللورداتraquo; يجب انتخاب أعضائه انتخاباً، أم تعيينهم بالوراثة؟!
ثم أن النظام الديمقراطي ليس مثالياً ولا طوباوياً وليس آتياً من laquo;جمهوريةraquo; أفلاطون. ولأحد أبرز زعماء العمل السياسي في بريطانيا، وهو ونستون تشرتشل، مقولة شهيرة عن الديمقراطية، وهي أنها ليست أفضل نظم الحكم لكنها أقلها سوءاً!
فكل بديل حكم آخر يشمل من السوءات أكثر مما تشمله الديمقراطية! وإذا كانت مجتمعات العالم الثالث تريد الديمقراطية فعليها أن توفر شروطها أولاً:
1- التأكّد من أن التنمية الاقتصادية، وإقامة ضروريات البُنية التحتية، وتنامي قوى المجتمع المدني قد بلغت درجةً من النضج تسمح بقيام نظام ديمقراطي، وهذا يدخل ndash; مثلاً ndash; في سر نجاح المشروع الديمقراطي الإصلاحي لملك البحرين، حمد بن عيسى آل خليفة الذي تستعد بلاده لانتخابات الدورة البرلمانية الثالثة هذه الأيام، حيث نشهد ونكتب، إلى جانب الديمقراطيات الناجحة في عالـم اليوم. والجدير أن هـذا laquo;الوعيraquo; اقترب من أن يصبح laquo;مسلمةraquo; في المجتمع حيث كتب الكاتب البحريني القدير عبدالله المدني في روايته الجديدة laquo;بولقلقraquo; إشارة بهذا المعنى ndash; نشر المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص 90.
2- العمل على تقوية الدولة الحاضنة للديمقراطية. فلا يمكن للديمقراطية أن تنمو في دولة مضعضعـة الأركان وما يحـدث أمامنـا في العــراق، يؤكـد ذلـك. وlaquo;الديمقراطيونraquo; الذين يعملون على زعزعتها وإضعافها، يضعفون أهدافهم في الديمقراطية قبل كل شيء. وكان كاتب هذه السطور قد أشار إلى أهمية ذلك عندما أصدر كتابه (تكوين العرب السياسي) عام 1994، ص 191، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت) وكان المفكر المغربي الدكتور عبدالله العروي، يشير قبل ذلك في أبحاثه القيمة إلى هذه الحقيقة وضمن هذا السياق لابد من الإشارة إلى أهمية ظهور laquo;القائد التاريخيraquo; الحريص على تنمية الديمقراطية في وقتها المناسب.
3- في المسيرة الديمقراطية، وحيث أنها تطبق في واقع البشر وظروفهم، يمكن أن تحدث laquo;تراجعـاتraquo; وlaquo;انتكاساتraquo;. ولكن هذا أدعى إلى الاستمرار فيها واستنقاذها، من التراجع عنها.
4- لابد من الحذر في مجتمعات كمجتمعاتنا العربية والإسلامية، إن بعض القوى، أو معظمها!، التي يدعمها laquo;الشارعraquo; وتثير غرائزه بتأثير الغيبيات أو المحرمات أو الهزائم، يمكن أن تصل إلى السلطة وتقضي على الديمقراطية من الأساس! حدث هذا في روسيا بعد الثورة على القيصرية، حيث استمرت تجربة ليبرالية جديدة فيها لمدة تسعة أشهر فقط، قبل وصول البلاشفة إلى السلطة، أما المثال الألماني الهتلري عام 1933 حيث نال الحزب النازي أغلبية برلمانية، باسم الديمقراطية. فإنه أشهر من أن يُعرّف.
التعليقات