مثنى عبد الله

لم تدع فوضى (بوش) الخلاقة ركنا في العراق الا وتركت بصماتها عليه، تدميرا وتحريفا وتمزيقا منذ 9 نيسان/ابريل 2003 وحتى اليوم، ولم ترخ الكف الامريكية قبضتها عليه على الرغم من عبارات (اوباما) المنمقة والناقدة لسلفه والمنتقاة بعناية، كي يستدر عطفنا ويحصل على ما يريد برضانا هذه المرة استكمالا لما بدأ به الذي سبقه مع فارق بسيط، هو ان الاول استخدم عنجهية القوة بينما استخدم الثاني نعومة القوة، في تحقيق هدف استراتيجي واحد هو اخضاع العراق الى الارادة الامريكية ونهب ثرواته واخراجه تماما من حلبة الصراع العربي الصهيوني.
وفي الوقت الذي يجري فيه الحديث بصوت مسموع واصرار تام على سحب القوات الامريكية من العراق مسيرين لا مخيرين، بعد الوحل الذي ادخلتهم فيه المقاومة العراقية الباسلة والدمار الاقتصادي الذي الحقته بهم، نجد بان عناصر القوة الناعمة قد بدأت فعلها في الساحة من خلال الوفود الامريكية السرية والعلنية، والاتصالات الهاتفية المعلنة وغير المعلنة بين المسؤولين في الادارة الامريكية واقطاب الحكم في بغداد، والتي تحث جميع الاطراف على التشكل من جديد والجلوس في نفس المركب الذي وضعهم فيه الحاكم الامريكي (بول بريمر)، بما لا يدع مجالا لاحد للبقاء خارج السرب والتغريد بمفرده. لقد ابتدأت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الامريكية وايران على التراب العراقي، ولا بد للطرفين من تعزيز مواقعهما والتخندق خلف الاحزاب والكتل العراقية، واذا كان الامريكان يمارسون ضغطهم بشكل مكشوف لاستفزاز ايران بغية معرفة ردود فعلها ووضع اليد على عناصرها التي قد تطل برأسها هنا وهناك في الساحة العراقية، فان الايرانيين لم يدعوا يوما يمر منذ بداية الازمة السياسية في تشكيل الحكومة، الا وكان لهم وفد سري في بغداد يضغط على حليف او يدفع لشراء طرف بعيد او يقنع معارضا لدورهم في العراق، للسفر الى طهران كي يتم الاتفاق معه على ما يريد بنظام الصفقة وقد حصل ذلك مرات عديدة. فلقد امتازت السياسة الايرانية بقدرتها على اختراق القوى العراقية من خلال عدم وضع فيتو على اية جهة سياسية، بل حثت حلفاءها على التحالف حتى مع القوى التي تخالفها في الطائفة، لان الايرانيين ليسوا اصحاب نهج طائفي، بل هم اصحاب مشروع قومي فارسي يستخدم الفروقات الطائفية لخدمة مشروعهم القومي، واذا كانوا قد وضعوا خطا احمر على وصول هذا وذاك من قادة الكتل السياسية الى سدة السلطة في العراق، فان هذا حاصل بسبب عدم قبولهم وجود نظام سياسي في العراق يعارض نهجهم التوسعي، او يدين بالولاء الى السيد الامريكي على الرغم من انهم ليسوا في الضد التام من المشروع الامريكي، فما يهدفون اليه من الامريكان هو فقط انتزاع اعتراف لهم بانهم قوة اقليمية لها ما لها من حقوق السيطرة والابتزاز على الاقليم وما جاوره، وعليها ماعليها من واجبات الاعتراف بالزعامة الامريكية على العالم.
لقد استبدل الامريكان والايرانيون سفيريهما في العراق مؤخرا، في اطار تعزيز القوة الناعمة لهما في الساحة، وسيجد من يطلع على ملفي السفيرين الجديدين اللذين استلما منصبيهما في بغداد المحتلة، عناوين السياسة العامة للمرحلة المقبلة في العراق لكلا البلدين . فالسفير الامريكي الجديد (جيمس جيفري) لديه مساهمة واسعة في ملفات الشرق الاوسط عموما والعراق خصوصا، حيث كان منسقا للشؤون العراقية في عهد وزيرة الخارجية الامريكية (كوندوليزا رايس)، ومساعدا لمستشار الامن القومي، ومساعدا للرئيس في البيت الابيض في ادارة (بوش)، ونائبا لرئيس البعثة الامريكية في العراق بين حزيران/يونيو 2004 واذار/مارس 2005، ثم قائما بالاعمال في السفارة الامريكية من اذار/مارس 2005 الى حزيران/يونيو 2005. اما السفير الايراني الجديد (حسن دانائي) فقد ولد في بغداد وعمل نائبا لقائد القوات البحرية في الحرس الثوري الايراني، وكان مسؤولا عن المساهمة الايرانية في اعمار العتبات المقدسة في الكاظمية وكربلاء والنجف، كما عمل مع ما يسمى (المعارضة العراقية) من خلال دوره في الاشراف على منظمة بدر والمجلس الاعلى وبقية الفصائل الاخرى، اضافة الى عمله في مؤسسة تشخيص مصلحة النظام، فضلا عن دوره في الاعداد العسكري للعمليات السرية خارج الاراضي الايرانية.
ان قاعدة المعلومات المتوفرة عن السفير الامريكي وتصريحاته التي اكد فيها ان(الايرانيين يريدون نفوذا سياسيا وامنيا فوق الاحزاب والنظام العراقي)، وان (آلية ايرانية استخبارية ودبلوماسية ضخمة تعمل لتحقيق هذا الهدف داخل بغداد وخارجها) انما يدلل على طبيعة الصراع السياسي والاستخباري القادم بين القوى المحتلة، وهو الذي دفع مراكز القرار الايراني لتعيين السفير الجديد الذي يرتبط بعلاقات واسعة وقديمة مع القوى العراقية ذات النشأة الايرانية، كي يعيد انتاج ادوارها وفق الضرورات المستجدة على الساحة وبما يتلاءم مع المواجهة القادمة. فلقد استغل السفير الايراني الجديد مسؤوليته السابقة في الاشراف على المساهمة الايرانية في اعمار العتبات المقدسة، فبنى شبكة علاقات واسعة جدا في كل من بغداد وكربلاء والنجف تحت هذا الغطاء، وانشأ واجهات لا شرعية تعمل لصالح المشروع السياسي الايراني، وهو نفس الدور الذي مارسه السفير الامريكي الجديد عندما كان يعمل في بغداد سابقا. فلقد استغل الامريكان والايرانيون كافة الوسائل لممارسة دورهم التخريبي في العراق طوال الفترة المنصرمة بما فيه المجال الدبلوماسي، في ظل غياب القرار السيادي العراقي الواضح، والذي غيب بدوره الاجهزة الامنية العراقية الكفيلة برصد الممارسات اللاشرعية للبعثات الدبلوماسية الاجنبية في العراق ووضع حد لها، مما جعل دور السفيرين الامريكي والايراني اشبه بدور المندوب السامي ابان الاحتلال البريطاني للعراق في القرن الماضي، الذي كان له القول الفصل في المشهد العراقي. فالسفير الايراني السابق لم يتوان في زيارة العديد من المسؤولين العراقيين في مكاتبهم ودورهم، مطالبا بدعم المنهج الايراني السياسي في العراق، وقد جاء ذلك على لسان احد اعضاء البرلمان العراقي، وكان ولازال غالبية الكادر الدبلوماسي الايراني هم من عناصر المخابرات الايرانية يجولون في كل المحافظات العراقية حتى بدون اشعار وزارة الخارجية كما هو العرف السائد. ولم يكن دور السفير الامريكي اقل من دور زميله الايراني، في ظل اكبر سفارة امريكية في العالم، تحوي محطتها الاستخباراتية من الاجهزة والمعدات التي تمكنهم من التنصت على كل ما يدور خلف الكواليس بين الاطراف العراقية الموالية والمعارضة لهم.
ان القرار الايراني الان هو لعب دور اكبر في الشأن العراقي بعد الانسحاب العسكري الامريكي، خاصة وان وكلاءهم في العراق قد اصابهم التشرذم والتفتت، مما يستدعي استلام الملف العراقي وادارته بصورة مباشرة من قبلهم، وقد يستدعي البحث عن حلفاء جدد يسهرون على مصالحهم وينفذون اجندتهم، كما ان القرار الامريكي هو الاخر قد اتخذ ايضا بعدم التفريط بالجهد والمال والدماء التي اهدرت في العراق، وان ثمنها يجب ان يستمر مدرارا من الثروة العراقية ومن مستقبله السياسي، سواء بالقوة الناعمة او بغيرها، لقناعتهم بان الهزيمة في العراق انما هو (تسونامي) من نوع اخر قد تطيح موجاته الارتدادية بكل مشاريعهم في المنطقة، ويعطي وجها جديدا للشرق الاوسط يختلف جذريا عما هو عليه الان وما يريدونه هم له.