علي جرادات

منذ الانخراط في مشروع التسوية الأمريكي في مؤتمر مدريد عام ،1991 عبر الشروع في مفاوضات منفردة ثنائية مباشرة مع الكيان الصهيوني تحت الرعاية الأمريكية، لم تحصد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ومن خلفها النظام الرسمي العربي، غير الخيبة وتآكل المواقف والعجز عن مواجهة تحديات الصلف الصهيوني الرافض للتسوية السياسية .

رغم ذلك، ورغم بلوغ سيل الصلف الصهيوني بقيادة نتنياهو-ليبرمان زباه، في الموقف والممارسة، ورغم تجاوز الانحياز الأمريكي كل حد، تواصل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ولجنة المتابعة العربية الاستجابة للضغوط الأمريكية وإنذاراتها، بديلاً لإجراء مراجعة سياسية لعقدين من التفاوض العقيم، والذهاب بالقضية إلى الهيئات الدولية في مواجهة إنذار الفيتو الأمريكي .

الرفض الصهيوني للتسوية السياسية ثابت، وأكدته مسيرة عقدين من التفاوض، والانحياز الأمريكي للرؤية الصهيونية واضح وضوح الشمس، وهذا وذاك كانا يقتضيان بحثاً فلسطينياً وعربياً مختلفاً عما تقوم به قيادة منظمة التحرير ولجنة المتابعة العربية، ذلك حتى لا يقاد الفلسطينيون مرة أخرى إلى جحيم الرهان على واشنطن، تحت تضليل القول: يقبل الأخوة العرب ما يقبل به الأخوة الفلسطينيون .

والأنكى، أن يجرى بحث الانتقال للمفاوضات المباشرة بانفصال عن مخطط إغراق لبنان في بحر فتنة داخلية، لم يفضِ الجهد العربي تجاهها عن شيء غير تهدئتها، فيما المطلوب إيجاد حل بين الفرقاء اللبنانيين يفضي لوأدها . والمفارقة أنه بينما يحرص الكيان الصهيوني بدعم أمريكي على التعامل مع ملفات المنطقة ضمن خطة محكمة، تعي ما بين هذه الملفات من تشابك واقعي، يواصل النظام الرسمي العربي تجزئة قضاياه، ذلك ارتباطاً بالانقسامات العربية التي تحول دون معالجة الترابط القائم بين دفع لبنان إلى هاوية الفتنة الداخلية، وبين جرجرة الفلسطينيين مجدداً إلى مفاوضات ثنائية عبثية، جُرِّبَت لعقدين من دون نتيجة، باستثناء التغطية على تكريس الرؤية الصهيونية على الأرض، وزيادة التآكل في الموقفين الرسمي العربي والفلسطيني، وتكريس عدم الاستخدام الجماعي لأوراق القوة العربية . والنتيجة جَعْل العرب بلا حول ولا قوة، وتكريس العجز عن مواجهة الصلف الصهيوني والانحياز الأمريكي له .

لو كان الترابط الواقعي بين الملفين الفلسطيني واللبناني، فضلاً عن باقي ملفات الصراع، قائماً في المعالجة العربية، كما هو قائم في الخطة الأمريكية الصهيونية، لكانت عقدت قمة عربية طارئة، وفي أقله، لكانت عقدت قمة للنافذ من الدول العربية، لإجراء مراجعة سياسية شاملة لمسيرة عقدين من التفاوض العبثي، فضلاً عن بحث راهن الحالة العربية والمخاطر المحدقة بالعديد من بلدانها، لاسيما لبنان، خاصة في ظل صلف صهيوني بقيادة نتنياهو صاحب النظرية العنصرية: بالضغط يرضخ العرب، كما سجلها علناً في كتابه ldquo;تحت الشمسrdquo;، فما بالكم حين يلتئم شمل نظرية عنصرية كهذه مع فاشية ليبرمان صاحب ثاني كتلة برلمانية في حكومة نتنياهو الذي، وإن لم يعلن صراحة، فإنه يشارك ليبرمان رؤيته حول التبادل الجغرافي والسكاني .

إن جرجرة الفلسطينيين مرة أخرى لعبثية المفاوضات الثنائية المباشرة، والدفع باللبنانيين للفتنة الداخلية، هما خطتان في مخطط صهيوني-أمريكي واحد، كان على مركز القرار الرسمي العربي أن يرى الترابط بينهما، ويضع البديل العربي الموحد في مواجهتهما . وكل هذا لن يكون ممكنا إلا بالقطع مع نهج التفاوض المباشر الثنائي المنفرد تحت الرعاية الأمريكية، ومن دون ذلك لن يجد العرب غير مجاراة الأطروحات الأمريكية ووهم الرهان عليها، حتى لا نقول الرضوخ لإنذاراتها، كما فعلت قيادة منظمة التحرير ولجنة المتابعة العربية في اجتماع 29 تموز المنصرم، ما يعني السير في الطريق التي رسمتها حكومة نتنياهو-ليبرمان، ودفعت باتجاهها إدارة أوباما، أي طريق التغطية على إجراءات الاستيطان والتهويد والحصار . . . . الجارية على الأرض، إنها طريق الانتحار السياسي للفلسطينيين، ناهيك عن أنها طريق من الموسيقا التصويرية للتغطية على ما يحاك للبنان من فتنة داخلية، فضلاً عن التغطية على ما يجري الإعداد له في أروقة البنتاغون ووزارة الدفاع الصهيونية من مخططات حربية، يرجح المحللون والمراقبون اشتعال شراراتها، ذلك بصرف النظر عن سؤال متى وأين تقع؟

القرار العربي بذهاب الفلسطينيين للمفاوضات المباشرة، وليس رفضها والذهاب بالقضية إلى الهيئات الدولية، وتهدئة الفتنة في لبنان، وليس إيجاد حل لوأدها، يعكس مقدار ما في الموقف الرسمي العربي من تآكل ووهنٍ وانقسام، وضعه في استقالة سياسية حتى تجاه أكثر قضاياه مركزية وحساسية، وأملى عليه اتخاذ قراراته تحت طائلة الإملاءات الصهيونية والإنذارات الأمريكية، وما يعد له المخطط الصهيوني الأمريكي من فتنة داخلية في لبنان، تضرب المقاومة اللبنانية بوسائل سياسية بعد فشل اقتلاعها بالوسائل العسكرية في عدوان ،2006 وبما يساعد على تنفيذ ما يخطط للقضية الفلسطينية من حلول تصفوية، لعل أبرز عناوينها الدفع العملي باتجاه تثبيت رؤية الدولة ذات الحدود المؤقتة، بل ربما العودة بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 إلى ما كانت عليه قبل احتلالها مع احتفاظ الكيان الصهيوني بما كرسه عليها من وقائع .

إن طريق تجديد الرهان على الرعاية الأمريكية لإيجاد تسوية سياسية للصراع، وجوهره القضية الفلسطينية، هي طريق للانتحار السياسي للفلسطينيين وقضيتهم وحقوقهم، كما أن اقتصار معالجة ما يحاك للبنان من فتنة داخلية على التهدئة، ومن دون إيجاد حل لوأدها، يعني ldquo;دملrdquo; الجرح اللبناني على صديده، وتركه قابلاً للانفجار . وبهذه المعالجة الرسمية العربية القاصرة لراهن الملفين الفلسطيني واللبناني، يجوز السؤال: هل استقال النظام العربي من السياسة؟؟؟