على الخشيبان

في السعودية اليوم تتصدر قضية قصر الفتوى على مختصين من هيئة كبار العلماء المساحة الأكبر من الحوار الوطني نظرا لأهميتها الاجتماعية والنتائج الكبيرة التي سوف يحققها هذا القرار من اجل المحافظة على أركان أساسية في الكيان السعودي والمتمثلة في الدين والوطن.

فعملية إعادة مياه الفتوى إلى مجاريها الصحيحة والى مصادرها الثابتة مطلب ديني قبل أي شي نظرا لتلك الأزمات الفكرية التي خلقتها الآراء المتباينة في كثير من القضايا الدينية والمجتمعية المهمة، فعندما اصدر خادم الحرمين الشريفين قرارا تاريخيا بهدف حماية المجتمع من فئات التطفل على الفتوى فإن ذلك القرار سوف يوفر مسيرة سهلة وواضحة وقابلة للنقاش فيما يخص التحولات المجتمعية.

عندما اصدر خادم الحرمين الشريفين قرارا تاريخيا بهدف حماية المجتمع من فئات التطفل على الفتوى فإن ذلك القرار سوف يوفر مسيرة سهلة وواضحة وقابلة للنقاش فيما يخص التحولات المجتمعية

السؤال المهم في اعتقادي والذي يجب أن تستهل به مناقشة هذا القرار يتمثل في ماهية الهدف من هذا القرار التاريخي ودوره في حفظ المجتمع..؟ ولكن قبل الإجابة على ذلك فلابد من الإشارة إلى أن التاريخ الإسلامي والتاريخ السعودي بشكل خاص سوف يسجل لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله هذا الموقف الايجابي نحو حماية المجتمع السعودي من خطر الانحراف في فوضى الأفكار الدينية التي تحولت خلال الأربعة عقود الماضية إلى سلع تباع وتشترى تحت مظلة الإسلام.

لقد كان الخطر محدقا بالمجتمع وخاصة عندما بدأت ملامح الصراع الفكري تنتشر بين المجتمع على شكل فتاوى شرعية ملزمة وفي ذات الوقت أصبحت هذه الفتاوى مشروعا لتشتيت الوحدة السياسية والاجتماعية للوطن وتجاوز أثرها الجميع بقيام بعض الأفراد بتشكيل منظومات فكرية تبنت مواقف سلبية تجاه الدين والوطن.

ولعل هذه الفكرة تقودنا إلى معرفة الهدف الرئيس من هذا القرار وهو هدف ديني ووطني فخادم الحرمين حفظه الله عمل من خلال هذا القرار بشجاعة المؤمن وسماحة القائد لحماية المجتمع من ارتباك فكري في دائرة الدين والعمل بتعاليمه ، والحقيقة أن المجتمع وكنتيجة لابتهاجه بهذا القرار ينتظر كذلك تنظيما مماثلا للعمل الدعوي في المجتمع والاحتساب لخدمة الدين والوطن.

قد يبدو للكثيرين وخاصة من المحللين السياسيين والاجتماعيين والمفكرين بالإضافة إلى بعض طلبة العلم من هذا المجتمع وغيره أن هذا القرار قد يساهم في الحجر على الاجتهاد الفكري وتخصيصه في مؤسسة حكومية، والحقيقة أن هذا الفهم غير دقيق والسبب هو ظهور فئات أصبحت جريئة على استخدام الفتوى وأصبح الكثير منهم يتعاطى الإفتاء كجانب فكري لفرض آراء سياسية واجتماعية بعينها، ولذلك أصبح هذا القرار مطلبا مجتمعيا للحد من تجاوزات كثيرة في قضية الإفتاء.

هناك جانبان مهمان في صياغة هذا القرار لابد من الإشارة إليهما الجانب الأول: هو حماية العقيدة من فوضى التطاول وتقرير الجائز وغير الجائز وفرض الآراء الشرعية على حساب بعضها البعض.

الجانب الثاني : يتمثل في أن متطلبات التحول والتطور المجتمعي والانفتاح العالمي وحماية الإسلام من تهم التطرف والتشدد تقتضي ضبط المؤشرات الدينية ومنها (الفتاوى) بمرجعية مقننة تتوافق مع الأبعاد المجتمعية والوطنية وتدرك التحولات الاجتماعية بحيث تستطيع قيادة المجتمع نحو آفاق ومستقبل حقيقي ومنضبط بمعايير صحيحة تبعد عن المجتمع شبح الانحراف المرفوض أو الانغلاق المميت للمجتمع.

لقد جاء هذا القرار متزامنا مع أحداث كثيرة والواقع انه يعبر عن مرحلة نضج في التحول الاجتماعي، فكثير من التحليلات صاحبت ظهور الكثير من الفتاوى سواء تلك المرتبطة بممارسة الإرهاب والقتل والتدمير والتكفير ، أو تلك التي ناقشت قضايا خلافية واستفردت بآراء لم يعتد عليها المجتمع، هذه التحليلات الفكرية التي شاهدناها في صحفنا أو عبر الفضائيات ساهمت في تهيئة البيئة الاجتماعية نحو طرح الأسئلة الصحيحة حول دور المؤسسات الدينية في المجتمع لذلك جاء هذا القرار التاريخي ليحسم مسألة مهمة لصالح المجتمع الذي بدا أنه عانى كثيرا من تحولات فكرية أضرت بالمجتمع وخلقت تجاوزات خطيرة.

لقد كان التكفير والإرهاب والإفتاء بهما من أكثر التجاوزات التي أوجدت خللا كبيرا في معنى الإفتاء الديني ومصادره، فمن المعلوم أن الإفتاء يعتبر من اخطر العمليات الفكرية لدى العلماء المسلمين فلا يقدم على الإفتاء كل عالم أو كل طالب علم بل إن الكثيرين من العلماء كانوا يهربون من هذه المهمة لخطورتها ولأهميتها في تغيير مسار الأفراد والمجتمع كما في التاريخ الإسلامي.

إن قوة هذا القرار التاريخي تكمن أيضا في التزامه بما فيه ومحاسبة كل من يخالفه ، لذلك فالمجتمع أمام مهمة كبيرة لتعزيز هذا القرار فهناك مواقع إلكترونية تسطر الفتاوى بشكل يومي من أصحابها في قضايا مهمة وليست قضايا فردية وهناك نوع خطير من تلك الفتاوى ألا وهي الفتاوى المكتوبة والتي تختتم بتوقيع وختم من يفتي بها.

إن البعد الفلسفي كما أراه في هذا القرار يتمثل في المساهمة في تخليص المجتمع من ظاهرة سلبية إلا وهي ظاهرة توجيه الأسئلة المباشرة لأفراد لا يملكون من العالم شيئاً ، وكل ما يملكونه هو مظهرهم الديني فقط وهذه أولى الخطوات لفك اعتمادية الأفراد في المجتمع على غير الأكفاء في قضاياهم الدينية وتوجيهها نحو المعتمدين والموثوق بعلمهم.

الجميع مطالب بحماية هذا القرار التاريخي والتحذير من خطورة الإفتاء بشكل فوضوي وخاصة في القضايا الاجتماعية والسياسية والقضايا الخلافية بين أهل العلم فخلال العقود الماضية أصبحت الأخبار السياسية والقضايا والظواهر الاجتماعية والظواهر الطبيعية مصدرا مهما لبروز الإفتاء في كل القضايا البشرية وهذا ما فتح أبواب الفوضى في مسألة الإفتاء فأصبحنا نسمع عن خبر سياسي أو اجتماعي يحدث في أي بقعة في العالم وخاصة تلك البقع ذات العلاقة بالمسلمين ثم ننتظر في الصباح لنجد من يخرج علينا بفتوى دينية إما تتعاطف أو تحارب ذلك الخبر أو تلك الظاهرة دون أن يكون لهذه الظاهرة مساس في قضية دينية مباشرة.

لقد تحول الإفتاء من مفهومه التاريخي كونه حسما في قضية تتداخل مع تشريع ديني أو مستحدث يتطلب توضيحا دينيا ؛ حيث أصبحت الفتوى وكنتيجة لغياب البعد الاجتماعي في الفكر الديني خاصة وعدم الالتفات إلى دراسة المجتمعات فقد أصبحت الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تقاس على أنها تشريعات دينية بحتة لذلك انتشرت ظاهرة الإفتاء بين أفراد كثر في المجتمع.

الإفتاء كفلسفة دينية ليس إجابة عن الأسئلة (سؤال وجواب) وفلسفة الإجابة عن الأسئلة هي التي صاغت خطورة الفتوى وانتشار الفوضى فيها فكل فرد أصبح لديه الاستعداد لأنْ يجيب عن السؤال المطروح أمامه من خلال فهمه الخاص لذلك السؤال، الإسلام دين لم يأت على شكل سؤال وجواب ، الإسلام تشريع متوافق ومتكيف مع كل الظروف وعلماؤه هم الذين يستطيعون صياغة هذا التكيف من خلال مناقشاتهم العلمية وبحوثهم.

الفتوى قضية اجتماعية وفكرية تفرض التزاما وطنيا شاملا لذلك يجب أن لا تصدر من فرد بعينه بل يجب أن تكون عبر مؤسساتها المعتمدة ومن خلال إجراء دراسات بحثية ومشاركة فاعلة من مختصين في مجالات عدة فالفتوى اليوم لا يمكن أن يقوم بها العالم الديني وحده فهناك الطبيب وعالم الاجتماع والمهندس والاقتصادي كل هؤلاء أصبح لديهم مساهمة مطلوبة عند مناقشة القضايا الاجتماعية المختلفة ..

ولعل هذا القرار بحماية الفتوى يساهم في دمج التخصصات المختلفة للمساهمة في صياغة الفتوى بمنهجية متناسبة مع الواقع.