الحسين الزاوي

تعرف العلاقات الأمريكية بدول المغرب العربي تطوراً وحراكاً سياسياً لافتاً خاصة خلال السنوات القليلة الماضية، فبعد ما كانت الإدارة الأمريكية ترى في مراحل سابقة أن هذه المنطقة تمثل دائرة نفوذ خاصة بفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، فإنها فطنت منذ أكثر من عقد من الزمن إلى أهميتها الحيوية والاستراتيجية بالنسبة لمسار ومستقبل النفوذ الأمريكي في مجمل المنطقة العربية الممتدة من الخليج إلى المحيط .وهكذا وبعد أن اتضح للأمريكيين محدودية مشروعهم الموسوم ldquo;أيزنستاتrdquo; الخاص بمحاولة إدماج الاقتصاديات المغاربية ضمن مخطط كان يهدف في البداية إلى إيجاد آلية تسمح لرجال الأعمال الأمريكيين بالتعامل مع دول المغرب العربي كسوق موحدة وكبيرة ذات عائد اقتصادي ضخم، فإنهم قاموا، وفق ما كشف عنه مؤخراً رئيس مجلس الأعمال الجزائري الأمريكي، ببلورة مبادرة أمريكية جديدة تسعى واشنطن إلى الإعلان عنها انطلاقاً من الجزائر خلال قمة الأعمال والمقاولة الأمريكية المغاربية التي ستحتضنها الجزائر يومي 29-30 سبتمبر/ أيلول المقبل . وتهدف القمة، بحسب ما أوردته بعض وسائل الإعلام الجزائرية، إلى تشجيع الاستثمارات الأمريكية في المغرب العربي، وأطلقت واشنطن على هذه الخطوة الجديدة اسم ldquo;المبادرة الأمريكية الشمال إفريقيا للشراكة من أجل فرص اقتصاديةrdquo; .

وبصرف النظر عن مدى جدية وأهمية مثل هذه المبادرة الاقتصادية الجديدة بالنظر إلى الأجواء السياسية الملبدة التي تخيِّم على سماء دول المغرب العربي، فإن مثل هذه المشاريع تُفصح عن مدى إصرار الإدارة الأمريكية على الاضطلاع بدور محوري وفعال ضمن الفضاء الجيوسياسي للمنطقة، فالولايات المتحدة كما هو واضح، تريد أن تستفيد من المزايا المتعددة التي توفرها كل دولة مغاربية على حدة . فالعلاقات المتينة والتاريخية التي تربط أمريكا بالمملكة المغربية تجعل واشنطن ترى في هذه الدولة واحة للاستقرار السياسي والاجتماعي، وهو مؤشر بالغ الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة كونه يسمح لها ببناء استراتيجية بعيدة المدى بالمنطقة، وفضلاً عن ذلك فإن الحزب الديمقراطي الأمريكي الحاكم حالياً، تربطه علاقات وطيدة بالمغرب منذ عقود طويلة، بالرغم من أن ما يجمع المملكة بفرنسا يظل أكثر أهمية بالنسبة للرباط من علاقاتها بواشنطن، خاصة أن المغرب يمثل الشريك الاستراتيجي الأول لفرنسا بالمنطقة حتى قبل تونس بصرف النظر عن الطابع الديناميكي للعلاقات التونسية الفرنسية، فالمغرب يحظى بوضع تفضيلي ومتميز بالنسبة للفضاء الاقتصادي لدول الاتحاد الأوروبي .

أما بالنسبة للجزائر التي تشهد علاقتها بفرنسا مرحلة شديدة التوتر، فإنها ترى في علاقاتها بالبيت الأبيض بديلاً مناسباً في المرحلة الحالية خاصة على المستوى الاقتصادي، وذلك بموازاة احتفاظها بعلاقات استراتيجية وعسكرية قوية مع روسيا الحليف التقليدي للجزائر منذ مرحلة الستينات من القرن الماضي . وترى الولايات المتحدة في الجزائر شريكاً متميزاً وفعالاً في الحرب التي تشنها ضد القاعدة، كما أن الجزائر تمثل بالنسبة لواشنطن قاعدة اقتصادية قوية وسوقاً استهلاكية واعدة، يمكن البناء عليها في سياق أي مشروع شراكة اقتصادية قد تجمعها بدول المغرب العربي . كما أن الجزائر تمثل بالنسبة لواشنطن بوابة استراتيجية بالنسبة لعلاقاتها المستقبلية بدول الساحل الإفريقي ؛ وفي هذه النقطة بالذات، تتضارب المقاربة الفرنسية مع مثيلاتها الأمريكية .ففرنسا لا تريد أن تضلع الجزائر بدور ريادي في منطقة الساحل والصحراء، بينما ترى الولايات المتحدة أن الجزائر مؤهلة بحكم تجربتها الأمنية في محاربة الإرهاب، من أجل قيادة دول المنطقة في سبيل تثبيت الاستقرار ومحاربة القاعدة والجريمة المنظمة في الصحراء الكبرى . وبالإضافة إلى ذلك فإنه إذا كانت أمريكا ترى في المؤسسة العسكرية الجزائرية أحسن شريك قادر على ضمان نسبة كبيرة من الاستمرارية والديمومة في علاقاتها مع الجزائر، فإن فرنسا ترى في هذه المؤسسة ذاتها، وتحديداً بتركيبتها الحالية الوفِيَّة لمبادئ جيش التحرير، العائق الكبير الذي يواجهها في بناء علاقة جديدة مع الجزائر تتجاوز ميراث الماضي الاستعماري .

ويمكننا القول إن العلاقات التونسية الأمريكية شبيهة إلى حد بعيد بالعلاقات المغربية الأمريكية مع بعض الفروق البسيطة، فالجمهورية التونسية لا تريد أن تكون علاقتها بواشنطن بديلاً عن علاقتها الحيوية بفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي، خاصة أن الاقتصاد التونسي يكاد يرتبط ارتباطاً هيكلياً بالاقتصاد الأوروبي، وسبق له أن وقَّع اتفاقية شراكة مع دول الاتحاد، وذلك بالرغم من انزعاج تونس الشديد من الوصاية التي تمارسها فرنسا وجمعياتها الأهلية في مجال ما يسمى بحقوق الإنسان، وما يثيره كل ذلك من ضجيج إعلامي، ترى فيه الحكومة التونسية محاولة غير مقبولة من أجل النيل من صورة تونس في الخارج .

وبالرغم من الدفء الذي شهِدته العلاقات الأمريكية الليبية مؤخراً، في فترة حكم الجمهوريين، فإن أمريكا غير مطمئنة على علاقاتها مع ليبيا لأنها ترى في ما يبدو أن مستقبل السلطة في ليبيا ما زال غير مؤكد، خاصة في الفترة التي سوف تعقب غياب العقيد معمر القذافي عن مشهد السلطة في ليبيا . غير أن ذلك لا يمنع واشنطن من النظر بجدية كبيرة إلى الإمكانات التي توفرها السوق الليبية في مجال الاستثمار بالنظر إلى الوفرة المالية والنفطية التي تزخر بها الجماهيرية الليبية ؛ بالإضافة إلى قدرة الدبلوماسية الليبية على الاضطلاع بمهمات طلائعية وحاسمة في تسوية النزاعات في إفريقيا .

أما العلاقات الأمريكية الموريتانية فقد شهدت بعض التحسن بعد الانتخابات الرئاسية التي أوصلت الرئيس ولد عبد العزيز إلى الحكم، حتى وإن كانت هذه العلاقات من دون مستوى العلاقة الوطيدة التي تجمع نواكشوط بباريس، وفضلاً عن ذلك فإن واشنطن لا ترى في موريتانيا سوقاً اقتصادية واعدة بالرغم من موقعها الاستراتيجي المهم المطل على المحيط الأطلسي، كما أن المؤشرات السياسية لا تفيد أن الولايات المتحدة راضية عن التنسيق العسكري الفرنسي الموريتاني في محاربة القاعدة .

ويمكن القول تأسيساً على ما سبق إن المؤشرات السياسية تفيد بأن العلاقات الأمريكية المغاربية ستعرف في المرحلة المقبلة انطلاقة قوية، وهي الانطلاقة التي ستأخذ في الحسبان طبيعة الأوضاع الجيواستراتيجية الخاصة بكل دولة على حدة، إضافة إلى العلاقات غير المستقرة بين الجزائر والمغرب بسبب قضية الصحراء ؛ حيث تطمح واشنطن إلى أن تجعل من الاقتصاد البوابة الرئيسية، التي يمر عبرها مسلسل تطوير العلاقة السياسية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية مع دول المنطقة .