ياسر الزعاترة

لا مفاجأة على الإطلاق، فمن اعتبروا laquo;الحياة مفاوضاتraquo; لم يقولوا الحقيقة كاملة، وخلاصتها أن المفاوضات هي الحياة بالنسبة لسلطة لا يمكنها أن تفعل شيئًا غير التفاوض ما دامت تأخذ ثمنه (معونات، ودعمًا، وتسهيلات)، وما دامت في أمسّ الحاجة إليها كي تقنع الشارع بأنها تفعل شيئًا من أجل الحصول على الدولة الموعودة بمواصفاتها المعروفة.
تلك هي خلاصة الحكاية التي مللنا من تكرارها، وإن وجدنا حاجة إلى ذلك وسط زفة laquo;البروباغنداraquo; التي لا تتوقف، والتي يشارك فيها مع الأسف أتباع يتوزعون في كل مكان، بما في ذلك مواقع الإنترنت يمارسون الشتائم بحق معارضيهم، ويذكّرون بأخطاء حماس (بالحق والباطل)، مع أنهم يدركون أن أحدًا لا يملك عنوان القضية وأوراقها وشرعيتها (مع الأسف بالطبع) غير الذين يبيعونها بثمن بخس laquo;دراهم معدودةraquo;، ومكاسب هزيلة، ووعود معروفة ليس من بينها الدولة بالمواصفات التي يرددونها بين الحين والآخر كدليل على تمسكهم بالثوابت التي ليس من بينها بالطبع 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية أصبحت حلالاً زلالاً لليهود أمام العالم أجمع.
لا قيمة هنا لحكاية الضغوط laquo;الرهيبةraquo; التي مورست عليهم من أجل العودة للتفاوض، لأن التفاوض يجري كل يوم في مقر المقاطعة، ومكاتب التنسيق الأمني، فهذا هو التفاوض الحقيقي الذي يصل إلى نتيجة عملية، أمّا التفاوض الآخر أمام الشاشات فله أهداف أخرى يعرفها أولو الأمر تمام المعرفة، كما يعرفون أنه لن يصل إلى صفقة نهائية لأن قبول ما يعرضه نتنياهو يعني الانتحار السياسي المعلن.
إنه تفاوض مطلوب لكي يغطي عمليات التنسيق الأمني، ومشروع laquo;السلام الاقتصاديraquo; الذي يتحرك على الأرض، وهو ذات الدولة المؤقتة التي ستغدو بمرور الوقت دائمة تعيش مع جارتها نزاعًا حدوديًّا مثل عشرات النزاعات الحدودية المنتشرة في العالم، وسيكون بوسع السادة أن يقولوا للناس إنهم لم يتنازلوا عن الثوابت؛ لأنهم لا يزالون يطاردونها عبر الضغط على laquo;العدوraquo; من خلال المجتمع الدولي.
لقد قبل القوم منذ أوسلو حقيقة أن المرجعية الحقيقية للمفاوضات هي ما يتفق عليه الطرفان، وليس القرارات الدولية، ومنذ ذلك الحين لم يعد ثمة قيمة لأي حديث عن المرجعيات حتى لو تكرر بين حين وآخر في رسالة من هنا أو هناك، مع أن الرسائل عادة ما تخدم الطرفين، وإلاّ فأين يمكن وضع رسالة الضمانات التي قدمها بوش لشارون ربيع العام 2004، وحسمت عمليًّا الكثير من قضايا ما يسمّى الوضع النهائي، وعلى رأسها المستوطنات التي اعتبرت أمرًا واقعًا لا يمكن تغييره.
هناك تفسير آخر لذلك الإلحاح على الإسراع في إطلاق مسلسل التفاوض الجديد يتمثل أولاً في مخاوف اندلاع انتفاضة جديدة في الأراضي المحتلة، تحديدًا في الضفة الغربية تنسف كل ما بناه الجنرال دايتون، والسيد توني بلير خلال سنوات، بينما تهدد مصالح أمريكا في العراق وأفغانستان وعموم المنطقة، وثانيًا ضرورتها (أعني المفاوضات) لاستهداف إيران، وربما حزب الله، وحماس أيضًا، بحسب ما يرى القادة الصهاينة، بالتنسيق أو من دون التنسيق المباشر مع واشنطن.
لا ندري إلى متى يطول هذا الليل، لكننا واثقون من بزوغ فجر جديد يستعيد فيه شعبنا قراره وبوصلته، ويبدأ رحلة جهاد جديدة لا مكان فيها لغير الشرفاء الذين يعرفون معنى الوطن والكرامة والتحرير والمقدسات.