عبدالله المطيري

في أمريكا اليوم جدل واسع حول قضيتين لهما علاقة بالإسلام. الأولى عزم كنيسة في فلوريدا على حرق المصحف بمناسبة ذكرى الحادي عشر من سبتمبر. والثانية قضية بناء مركز إسلامي بالقرب من أنقاض برجي التجارة العالمية في منهاتن قلب نيويورك

هل سيتقاتل الناس لأسباب دينية من جديد؟ نعلم أنّ التاريخ البشري يسجل في صفحات طويلة من عمره حروبا شرسة بين جماعات بشرية لأسباب دينية، حيث لم يكن من المُفَكَّر فيه إلى حوالي مئتين سنة من عمر البشرية تواجد دينين مختلفين دون أن يسيطر أحدهما على الآخر. مؤخرا فقط اكتشف بعض البشر أنّه من الممكن أن تتعايش جماعات متنوعة من البشر في مكان واحد تحت سلطة لا تميّز بينهم بسبب معتقداتهم. لكن شبح عودة القتال لأسباب دينية لا يزال يلوح في الأفق. حتى أكثر المتفائلين لا يستطيعون استبعاد هذا الشبح من تحليلاتهم. ولذا فإن العلاقات بين الأديان اليوم تحظى بمراقبة دقيقة من المهتمين بمستقبل الإنسان على هذا الكوكب وباعتبار أنّ المسيحية والإسلام هما الدينان الأكثر تأثيرا في العالم فإن العلاقة بينهما اليوم تحت المجهر خصوصا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وسلسلة الأحداث السياسية والعسكرية والإرهابية التي تلتها.
في أمريكا اليوم جدل واسع حول قضيتين لهما علاقة بالإسلام. الأولى عزم كنيسة في فلوريدا، جنوب شرق أمريكا، على حرق المصحف بمناسبة ذكرى الحادي عشر من سبتمبر. والثانية قضية بناء مركز إسلامي بالقرب من أنقاض برجي التجارة العالمية في منهاتن قلب نيويورك. هذان الحدثان يتصدران المشهد اليوم ويمكن قراءتهما في سياق محاولة فهم كيف تسير العلاقة بين أكبر دينين في العالم اليوم وهي العلاقة التي يمكن الرهان على أنها ستكون مؤثرة في مستقبل البشر وأجيالهم القادمة. من المهم الآن الإشارة إلى أن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في أمريكا أهدأ بكثير منها في أوروبا لعدة أسباب من أهمها أن كثافة المسلمين في أمريكا أخف بكثير منها في أوروبا ولأسباب تاريخية أخرى ولكنها تبقى علاقة مهمة وذات مؤشرات دالة بقوة.
الحدث الأول هو حدث حرق المصحف، وهو حدث أطلقه قس متشدّد الشهر الماضي، وكان كفيلا برصد مدى تفاعل الشارع مع مثل هذه الدعوة. خرج القس في لقاء على قناة CNN للحديث حول الموضوع وعبر له المقدم عن تساؤلات وآراء تدور في الشارع الأمريكي وسمعتها شخصيا من عدد من الأفراد وهي تعبر عمّا يمكن تسميته بثقافة العموم الأمريكي التي هي ثقافة احترام التنوع والاختلاف. سأل المقدمُ القسَّ مستنكرا: ما هو الدافع وراء رغبته في إيذاء مليار ونصف من البشر من خلال إحراق كتابهم المقدس؟ أي رسالة من الكراهية تريد أن ترسل؟ وخرج عن طوره ليصف هذا التصرف بالسخيف وغير المقبول. صديق أمريكي أخبرني أن عملية حرق الكتب عملية تعود في ذاكرته الثقافية لأجواء القرون الوسطى حين كان الفكر والكتابة المخالفة تعد جريمة يستحق مرتكبها الحرق وكذلك الكتاب. اليوم التعامل مع الفكر اختلف كثيرا والتعبير بالحرق والتكسير هو عمل متخلّف، ويعبر عن عنف وموقف غير متسامح. أيضا حملة القس لم تحقق جذبا لدى الناس بقدر ما شجعت عدداً كبيرا من الجمعيات الدينية وغير الدينية على تشكيل حملات مضادة تدعو إلى احترام الآخر مهما كان معتقده وعرقه وجنسه.
من جهة أخرى وفي ذات الوقت هناك قضية بناء مركز إسلامي في منهاتن قريب من أنقاض برجي التجارة العالميين في نيويورك، وهو المكان الذي أصبح رمزا للهجوم، باسم الإسلام، على أمريكا. هل يتحمل الوجدان الأمريكي أن يتمّ تجسيد هذا العدوان بمسجد؟ في كثير من دول العالم لا يحتاج هذا السؤال لطرح، فروح الانتقام لن تدع مجالا للحديث في الموضوع. في أمريكا الموضوع متاح للطرح بل إن الرئيس الأمريكي أيّد هذا الاقتراح كتعبير عن شكل قوي من أشكال تماسك المجتمع الأمريكي ورسالة أمريكية للمجتمع خصوصا بعد الجرائم العسكرية الكبرى التي ارتكبها الجيش الأمريكي في حقّ عدد من الشعوب. المجتمع الأمريكي منقسم حول قضية المركز الإسلامي بين مؤيد ورافض ولكن الأكيد أن الغالبية تتفق على أن المسلمين كغيرهم من المواطنين يجب أن يتمتعوا بحق المساواة مع غيرهم وأنَّ أيّ تمييز ضدهم هو خطر على الجميع.
من هذين الحدثين يمكنني القول: إن البيئة الأمريكية اليوم ليست مشجعة لنشوب صراع ديني مقبل. الواقع ليس مثاليا بالتأكيد فبؤر التطرف متوافرة ولكن المعوّل عليه هو انتشار قيم ومبادئ في المجتمع تحترم التنوع والاختلاف والحريات الخاصة والعامة وعلى وجود قوانين حقيقية تحمي السلام العام وتوقف أي تصرف من شأنه الإخلال بمبدأ المساواة الذي هو عنوان أيّ مجتمع متعاف.
السؤال الكبير هو عما يجري في الطرف الآخر، في الطرف الإسلامي وما هي حالة القيم التي يمكن التعويل عليها في مقاومة الصراع المحتمل بين الأديان؟ شخصيا لا أعتقد أن الجواب مطمئن. فالواقع يقول إن الاحتقان تجاه الديانات الأخرى لا يزال مرتفعا والخطابات السائدة تحمل مواقف حادة من الآخرين، حتى تلك التي تظهر بوجه متسامح نوعا ما. الحديث الهجومي عن جماعات وطوائف بكاملها لا يزال غير مثير للاستهجان العام بل يعتبر من معتاد القول ويحظى باستجابة تلقائية مخيفة. ليس هذا الحديث من باب جلد الذات بقدر ما هو محاولة رصدٍ للحالة التي تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية وسط مخاوف كبيرة أهمها المخاوف المتعلقة بالبنى الداخلية للمجتمعات ومعدّلات التنمية والبطالة والفقر والعلاقات بين طوائف وجماعات المجتمع ومعدلات العدالة الاجتماعية وأحوال التربية والتعليم. أحوال هذه القضايا كلها في أسوأ حال. أيضا المخاوف الخارجية المتعلقة بتصورات ومواقف هذه المجتمعات من الآخرين شركاء هذا العالم. هذه المواقف والتصورات تمر بأسوأ أحوالها وتجعل هذه المجتمعات في حالة تأهب واستعداد للصراع الداخلي والخارجي تحتاج فقط إلى لحظة اهتزاز أخيرة في الحكومات الحالية لتنفتح فوهة البركان. كل هذا يجعل من السؤال في بداية المقال سؤالا حقيقيا ولا بد من مواجهته.