إياد الدليمي

صحيح أن الانسحاب الأميركي من العراق ما زال غير مكتمل وأن هناك نحو 50 ألف جندي ما زالوا يعسكرون في أرض الرافدين، وصحيح أن تلك القوات التي انسحبت خلفت وراءها شعبا يعاني من أفظع كارثة إنسانية حلت على المنطقة العربية والشرق الأوسط منذ نكبة فلسطين، وصحيح أن تلك القوات المنسحبة سوف تخلف وراءها أيضا عملية سياسية كسيحة وأحزاباً دينية تابعة، ولكن الصحيح أيضاً، والذي لا يجب إغفاله أبدا، أن هناك إرادة عراقية صلبة، تمكنت من جعل الأرض تشتعل تحت أقدام الغزاة، مما اضطرهم إلى سحب القوات أو تقليصها والانزواء في قواعد محصنة، في أقل تقدير.
اليوم نحن إزاء مشهد كان يجب أن يكون كرنفاليا، فتلك القوات التي جاءت من خلف البحار، وجيّشت إدارة الجمهوريين في عهد الرئيس السابق جورج بوش، كل إمكانات وطاقات أميركا، والعديد من دول العالم، بدأت تخرج من العراق، وبدأت تسحب آلياتها الثقيلة وتذهب عابرة ذات المسافات التي قطعتها، ولكن هذه المرة بوتيرة أسرع من وتيرة الدخول.
لقد انتهت أسطورة جيش الدولة العظمى في العراق، فلقد تمكنت المقاومة العراقية من إذلال هذا الجيش وألحقت به أفظع الخسائر البشرية والمادية، حتى وصل عدد قتلى الجيش الأميركي ووفقا لإحصائية جمعية المحاربين القدامى الأميركية، نحو 33 ألف قتيل، ناهيك عن 260 ألف جريح ومثلهم أو يزيد من المعاقين نفسيا الذين ما زالوا يعيشون اضطرابات ما بعد الصدمة، أما الخسائر المادية التي قدرت فوصلت إلى نحو 3 تريليونات دولار أميركي.
إن الانسحاب الأميركي من العراق أو حتى السحب الجزئي، كما يحب أن يطلق عليه البعض، ما كان ليتحقق لولا تلك المقاومة التي وضعت نصب أعينها تحرير العراق، وحاولت من اللحظة الأولى أن تعبر عن واقع العراقيين الرافضين للاحتلال، رغم كل الحملات الإعلامية التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها قبل وأثناء الاحتلال والتي كانت تروج لمقولة أن العراقيين سوف يستقبلون تلك القوات بالأزهار.
أتذكر في الأيام الأولى للدخول الأميركي إلى العراق، كيف أن الجنود الأميركيين كانوا مستغربين من حالات الرفض اللفظي والتعبيري التي يبديها بعض العراقيين، أحدهم كان يريد أن يطلق النار بوجه طفل عراقي صغير لم يتجاوز العاشرة من عمره، عندما أشار بيده إلى رقبته وهو يحاول أن يقول للجندي للأميركي quot;سنذبحكمquot;.
تفردت المقاومة العراقية بخصائص ربما لم تكن قد سبقتها إليها أية مقاومة في التاريخ، فسرعة انطلاق شرارة المقاومة، كانت لافتة جدا، فمع نهاية اليوم الأول للدخول الأميركي وتحديدا يوم التاسع من أبريل، ومع ساعات الفجر الأولى، فجرت مجموعة مسلحة عبوة ناسفة استهدفت دورية أميركية في بعقوبة، لتؤذن بذلك بانطلاق فجر المقاومة العراقية. كما يسجل للمقاومة العراقية أنها الأولى عبر التاريخ التي رفع عنها كل غطاء وغاب عنها كل دعم، لتبقى وحيدة في الميدان، فلا دولة داعمة ولا إعلام ينقل حقائق عملياتها، كل ما كان لديها هو إيمان بالله.
المقاومة العراقية، انطلقت وطنية إسلامية، فكان فيها المسيحي والشيعي، بالإضافة إلى عمودها الفقري، أهل السنة، غير أنها حوربت بشتى الوسائل والسبل، حتى اقتصرت على أهل السنة، بعد أن تم إبعاد بقية مكونات الشعب العراقي بفعل الأيديولوجيات الحاقدة التي صورت المقاومين على أنهم بقايا النظام السابق ومن المتضررين بسقوطه، ناهيك عن عمليات التفجيرات المشبوهة التي كانت تستهدف الأسواق وبعض دور العبادة، وكلها كانت محاولات لسحب بساط التفاف الشعب حول المقاومة العراقية، والذي تجسد في أروع صوره في معركة الفلوجة الأولى عام 2004 والثانية في خريف ذات العام.
الواجب أيضا على هذه المقاومة أن لا تجعل أحداً يسرق نصرها، فهناك اليوم أدعياء يحاولون إيهام الناس بأنهم كانوا وراء هذا الإنجاز، على المقاومة العراقية أن تخرج اليوم وتقول للعالم حقيقة ما جرى على أرض الرافدين طيلة سنوات سبع، أن تخرج ما في جعبتها من حقائق غيبها الإعلام وجوقة الساسة في العراق أو في أميركا.
في يوم من أيام الاحتلال البغيض، وتحديدا في الشهر الثالث من عمره، كانت هناك دورية أميركية تسير في شوارع بغداد، وبالتحديد في شوارع مناطق الكرخ، الدورية الأميركية كانت ترفع شعاراً على عربات الهمر يقول: quot;أعطونا الأمن نعطيكم الماء والكهرباء والخدماتquot;. المحتل كان يقايض أمنه بالخدمات، لذلك لا عجب إذا علمتم اليوم وبعد كل هذه السنوات والأموال التي تجاوزت الـ300 مليار دولار، فإن الشعب العراقي لا يعرف الكهرباء وأغلب مناطقه لا تعرف الماء الصافي، ناهيك عن عدم وجود شارع سوى في العاصمة بغداد.