بغداد - محمد مسلم الحسيني
من يراقب سيرة نوري المالكي السياسيّة في كسب السلطة والحفاظ عليها، منذ أن تولى المنصب الأول في الحكومة العراقية وإلى هذه الساعة، يجدها سيرة لا تخلو من الدهاء والحنكة . لم يكن المالكي معروفاً في الأوساط العامة في بدايات التغيير في العراق، فهو ليس عضواً في مجلس الحكم، ولا منافساً على المركز الأوّل في الدولة، حيث لم يكن مكان خشية السياسيين المتنافسين على السلطة . إنما في الحقيقة كان الشخصيّة الثانية في السلّم التنظيمي لجناح من أجنحة حزب الدعوة الإسلامية الذي كان يقوده الدكتور إبراهيم الجعفري، وكانت حصة هذا الجناح من المقاعد البرلمانية خمسة عشر مقعداً حسب تقسيمات ومحاصصة الائتلاف العراقي الموحد آنذاك . ففي الانتخابات البرلمانية التي تمخضت عن أول برلمان عراقي عام ،2006 كان الدكتور الجعفري مرشحاً عن كتلة الائتلاف العراقي الموحد لرئاسة الوزراء، إلا أن رفع الأكراد للفيتو بوجهه جعله يتنازل عن هذا المنصب للشخصيّة التي تليه، أي للسيّد المالكي الذي حاز الرضا والتأييد من دون ضجيج وممانعات .
لعب الحظ دوره في تسلّق المالكي قمة الهرم أو ربما الأمور كانت أكبر من ظواهرها في كيفية حصوله على هذا المنصب . لم يكن حكم العراق في تلك الظروف نزهة جميلة للسيد المالكي، بل كان عليه أن يتدبر أمره أمام الكثير من التحديات والمصاعب . أهمها: الأمن المتردي، حالة عدم الاستقرار في كل الأوجه: السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية وغيرها، إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، الموازنة بين متطلبات وأهواء الأطراف الخارجية المتناقضة، وأخيراً الحفاظ على كرسي الوزارة من الوقوع بسبب الهزات الأرضية القوية التي تعرض لها . النجاح السياسي الأول للمالكي هو أنه استطاع وبسرعة نسبيّة أن يشكل حكومة مشاركة وطنية تضم أغلبية الأحزاب والكتل المعروفة على الساحة، وهي مهمة ليست سهلة أمام أول تجربة بهذا المضمار . هذا التآلف في صياغة الحكومة سرعان ما انفرط حينما انسحبت أغلبية الكتل المتآلفة، فخرج التيار الصدري بثقله منه، وخرج حزب الفضيلة ،وهما مكونان من مكونات الائتلاف العراقي الموحد، إضافة إلى انسحاب الأحزاب والتكتلات الأخرى كحركة الوفاق الوطني وجبهة التوافق وغيرها من الكتل والأحزاب السياسية المشاركة في الحكومة آنذاك، حتى بلغ العدد الكلّي للوزراء المنسحبين سبعة عشر وزيراً .
التفتت الذي حصل في حكومة المالكي كان قياسيّاً ولو حصل ما يشابهه في أي حكومة ديمقراطية في العالم لسقطت منذ اليوم الأول، لكن نواميس السياسة في العراق غريبة واستثنائية . لم يتزحزح المالكي من موقعه، بل بقي متمسكاً فيه رغم انسحاب نصف وزرائه . فرغم هذا الاهتزاز بقي المالكي يتحدى تمرد الآخرين بمختلف صوره ولم يتردد باستخدام كلّ الوسائل والسبل في الحفاظ على السلطة، والإمساك بزمام الأمور . حارب على الصعيدين السياسي والعسكري بكل ما أوتي من قوّة، فقد وقف بوجه من تمرد من الصدريين بمعركة دموية شرسة حصلت في جنوب العراق سماها صولة الفرسان . وحارب القاعدة والمجاميع المسلحة بمساعدة أرتال قوات الصحوة التي شجع على تأسيسها وتمويلها رغم الاعتراضات الكثيرة عليه . لم يتهاون مع كلّ من يهدد سلطته، كرديّاً كان أم عربيّاً، سنيّاً كان أم شيعياً، علمانياً كان أم إسلاميّاً، حتى خفت حدّة النعرات الطائفية وانحسرت ظاهرة القتل على الهوية في زمنه وتمت السيطرة على الأحياء التي كانت تسيطر عليها الجماعات المسلحة، وأوقفت عملية التهجير القسري، ورجع بعض الناس إلى مساكنهم، مما أوحى بتحسن واضح في الحالة الأمنية العامة، وإن كان ذلك دون مستوى الطموح .
استطاع المالكي أن يتسلم رئاسة حزبه بعدما أخفق الدكتور الجعفري في البقاء في منصبه كرئيس لهذا الحزب، وغادر الأخير حزب الدعوة ليشكل حزباً آخر أسماه ldquo;تيار الإصلاحrdquo; الذي لم يرق في شعبيته إلى مستوى الطموح، بل بقي حزب الدعوة صاحب القدح المعلى بين رواده ومناصريه، لأن قاعدة ldquo;البقاء للأقوىrdquo; هي شعار السياسة في العراق . هذا على صعيد حزبه أما على صعيد المجتمع العراقي بشكل عام فقد نجح المالكي في استمالة الكثير من رؤساء العشائر العراقية من أجل بناء قواعد شعبية له، إذ إن الولاء العشائري ما زال طاغياً في المجتمع العراقي، بل زاد وتشجع بعد التغيير . وفوق هذا وذاك فإنه اجتهد في بناء مؤسسة أمنية وعسكرية موالية له ولم يتردد باستدعاء أهل الخبرة والمعرفة من ضباط ومراتب الجيش المنحل .
أما على صعيد العلاقات الخارجية فإنه وازن في علاقاته بين الأقطاب الخارجية المهمة والمؤثرة في معادلة الهيمنة على الساحة العراقية، وخاصة القطبين الرئيسيين الأمريكي والإيراني . كان المالكي ذكيّاً في مسك العصا من وسطها، مما جعل نفسه غير مرفوض من قبل هذين القطبين . ربما لم يكن يمثل طموح الإيرانيين أو الأمريكيين في شخصيته وسيرته، لكنه يعد مقبولاً وحلاً وسطاً لكل منهما إن قورن بمن يتخذ أحد الأقطاب المتناقضة إماماً له . فالإيرانيون يفضلونه على رئيس القائمة العراقية الدكتور إياد علاوي الذين يعدونه من الموالين لأمريكا، والأمريكيون من جهتهم يفضلونه إن قورن برؤساء الأحزاب الإسلاميّة الشيعيّة الكبيرة الأخرى، كالتيار الصدري أو المجلس الأعلى الإسلامي . حافظ المالكي على التوازن بين مصالح القطبين الكبيرين، إذ كانت سياساته تستلطف مشاعر الأمريكيين من جهة ولا تبغض الإيرانيين بشكل ملموس وواضح .
استلطفته أمريكا حينما قاتل متمردي التيار الصدري وأبلى فيهم ldquo;بلاء حسناًrdquo;، واستلطفته أيضاً حينما ثار على السوريين وهدد وتوعد بعد أن اتهمهم بإيواء ومساعدة المسلحين والإرهابيين، حيث وصلت الأمور إلى تقديم دعوى في المحكمة الدولية ضد سوريا . كما أن توقيعه على المعاهدة الأمنية بين العراق وأمريكا رغم اعتراضات الإيرانيين عليها كان برهاناً واضحاً للأمريكيين بأن عليهم أن يناموا مستلقين على ظهورهم، فمصالحهم محفوظة في ظل ولاية المالكي . أما الإيرانيون فيصعب عليهم التشكيك بنيات المالكي وهو قائد لحزب إسلامي جعفري، وحتى إن وصلت الأمور إلى حد الشك وسوء الظن فسيصعب عليهم التصريح بها على الأقل في الوقت الراهن . هكذا كسب المالكي لعبة الأطراف الخارجية مما جنبه، على أقل تقدير، اعتراض هذه الأطراف عليه في التجديد لولاية ثانية .
أما في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، فقد رفض المالكي منذ بدء الحملة الانتخابية الانضمام إلى تكتل الائتلاف الوطني العراقي رغم الدعوات والصرخات، مما أوحى للآخرين بوجود انشقاق في الصف الإسلامي الشيعي . في الحقيقة ليس هناك انشقاق، إنما كان المالكي يعتقد اعتقاداً واثقاً بأنه سيحصل على كمّ كبير من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة يجعل تكتله السياسي ldquo;ائتلاف دولة القانونrdquo; أكبر من أي تكتل سياسي آخر، وهذا ما سيضعه في موقع الاقتدار والقوة لتمرير نفسه مرة أخرى لولاية ثانية . أما إن انضم منذ البداية إلى الائتلاف الوطني العراقي فهذا يعني ضياع الأصوات، وضياع فرصة ترشيحه للولاية الثانية، خصوصاً بوجود أعداء كثيرين له في هذا الائتلاف .
أصرّ المالكي أن يكون خارج الائتلاف، وأوحى بأنه سيتآلف معه بعد إعلان نتائج الانتخابات، أي يتآلف وبيده مفاتيح الخزينة كي تبقى له حصة الأسد في تشكيل الحكومة . فعلاً أعلن رسميّاً ائتلافه وانضمامه إلى الائتلاف الوطني العراقي مباشرة بعد الانتخابات، كي يفوّت الفرصة أمام القائمة العراقية التي أحرزت النسبة الأكبر من أصوات الناخبين والتي على أساسها، وحسب الدستور، تمنح استحقاق التكليف بتشكيل الحكومة . وهكذا خفّف من حدّة وتعدد الصراعات التي حوله وجعلها مقتصرة على دائرة التحالف الوطني الذي يضم ائتلاف دولة القانون والائتلاف الوطني العراقي .
صراعه مع الائتلاف الوطني العراقي بدأ بعد إعلانه بأنه المرشح الوحيد في دولة القانون لرئاسة الوزراء وهذا يعني:
أولاً: عدم تشتيت أصوات قائمته بترشيح شخص آخر للمنصب، وعدم المجازفة بتضييع فرصة توليه مقاليد الحكم مرة ثانية، إن جعل منافساً له من حزبه .
ثانياً: لقد أغلق الباب أمام أعدائه من الصدريين وغيرهم في كسب أو استمالة شخصيّات من حزبه أو من أحزاب متآلفة مع حزبه، حيث حافظ على كيان ائتلافه ومنعه من الانفراط والتشتت رغم المرغبات والمنشطات والاستهواءات التي عرضت على أعضاء وأحزاب هذا الائتلاف من قبل الأطراف الأخرى .
ثالثاً: أن إصراره على التمسّك بالسلطة رغم الضغوط الكبيرة المسلطة عليه من الداخل والخارج، جعل الكتل الأخرى عاجزة عن إيجاد حلول تستطيع من خلالها السير بموازاته . فقد نجح بتمرير شعاره ldquo;إما المالكي وإما لا حكومة من بعدهrdquo; .
بعد هذا النجاح السياسي في أداء المالكي لكسب السلطة والحفاظ عليها، ستبقى عيون المراقبين تنتظر نتيجة الامتحان الأكبر الذي يعد الأهم في سيرة حياة هذا الرجل السياسيّة . فإن نجح في مسعاه وكسب ولاية ثانية فهذا يعني تربعه على سدة الحكم إلى أجل غير مسمّى، وإن أخفق فيه فهذا يعني بأنه سيرحل عن وجه السياسة إلى الأبد ويصبح في ذمة التاريخ . ومهما كان من أمر فقد يتمتم العراقيون مع أنفسهم ولسان حالهم يقول: لو كان لدينا سياسيون أقوياء وأذكياء في تطوير بلدهم وإصلاحه، كقوتهم وذكائهم في الحفاظ على كرسي الحكم، لأخذ العراق يقفز نحو الرفاه والعلى قفزات متوالية .
التعليقات