علي حرب


لا أجدني بحاجة إلى أن أبرّر حديثي عن بلدي، لبنان، الذي يتكرّر أحياناً، من مقالة إلى أخرى، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لأن ما يحدث في هذا البلد الصغير له عوامله ومسبّباته، كما له أبعاده وتداعياته، العربية والاقليمية والدولية.

من هنا الاهتمام به، سيما من جانب الدول والأنظمة التي تتأثر بمجرياته، أو تمارس أدواراً على ساحته؛ هذا ما حصل مؤخراً، بشأن الاشتباكات التي وقعت بين حزب الله وجمعية المشاريع الخيرية الإسلامية المشهورة باسم laquo;الأحباشraquo;.

وما حدث يستحق التعليق من غير وجه:

ـ اعتاد اللبنانيون، عند كل اضطراب أمني، طرح الأسئلة التي تتكرر، ومنذ اندلاع الحرب عام 1975: ماذا يحدث؟ وكيف يحدث؟ وهل يعقل أن ينشب اقتتال بين الإخوة؟ والى متى تستمر الأوضاع على ما هي عليه؟ أما آن للبنان أن يطوي صفحة الحروب لفتح صفحة السلام، بعد أن دفع ضريبة الصراعات والشعارات هلاكاً وخراباً؟

وأنا عندما أواجه بمثل هذه الأسئلة، يقفز إلى ذهني دوماً الجواب الآتي الذي أفاجئ به السامع أو المتحدث: لبنان ما زال يتردّد، منذ أربعة عقود، بين حرب وسلم، أو بين فتنة وهدنة.

صحيح أن هناك تغيراً في الأسماء والوجوه والعناوين والقوى والفاعلين وسط المشهد، ولكن المنطق لا يزال هو نفسه: لبنان بلد معلّق أو وطن مرجأ، يُمنع أو يستحيل أن يعود إلى وضعه الطبيعي، كبلد آمن ومستقر، ما لم تجد المشكلات حلولاً لها على صعيد المنطقة كلها.

ولعل هذه هي الحال في العراق، وحتى في فلسطين، حيث تعدّت الصراعات والحروب والفتن الشعارات المطروحة حول التحرير والمقاومة. فمحركات القضايا باتت في مكان آخر، والقرارات المصيرية تصنعها الدول القوية والفاعلة على المسرح. ولذا، فكل ما يجري هو بعكس ما يقال ويعلن، بل هو لا يفعل سوى نقضه أو انتهاكه أو فضحه.

ـ من المفارقات أن الاشتباكات، التي وقعت في شوارع بيروت، قد اندلعت، ساعة الإفطار، لتوقع قتلى وجرحى وخسائر في الممتلكات واعتداء على دور عبادة، في ما كان القادة يتحدثون من على الشاشات، أو يولمون لبعضهم البعض، وكأن شيئاً لم يحدث.وفي هذا دليل على استخفاف، لا نظير له، بحياة الناس وأرزاقهم وحرياتهم وكراماتهم.

وأنا لا أعني هنا عناصر الأحزاب وأتباعها ومناصريها، وإنما أعني الناس الذين تفاجئهم الأحداث، ممن لا حول لهم ولا قوة، في دولة يعجز جيشها عن قمع الاضطرابات الأمنية، خاصة اذا كان لها طابعها الطائفي أو المذهبي، فكيف اذا كانت الدولة لا تزال هشّة، ضعيفة، بل هي اضعف من بعض التنظيمات المسلحة كالجيوش!

ـ والمفارقة تبدو فاضحة عند المقارنة مع ما تفعله الدول في الخارج لحماية رعاياها ومواطنيها، وخاصة إسرائيل التي تقيم الدنيا وتقعدها اذا تعرّض واحد من رعاياها للأذى في الخارج. عندنا لا قيمة للناس والحياة والمجتمع، لأن المهم أن تبقى القيادات والأنظمة والأحزاب.

ولعلّ أبلغ من عبر عن هذا الوضع هو الشاعر الكبير أنسي الحاج بقوله: laquo;نحن مجتمعات لا قيمة فيها للحياة، مجتمعات تقدِّس من يدوسها، وتبايع من يروّعها، وتغتنم فرصة سقوط الضحايا لتعزز في ذاتها مصادر الاستهتار بحياة الآخرraquo;..

ـ والمفارقة تبدو فاضحة إذا جازت المقارنة مع العصر الجاهلي، الذي كان أهله مقتصدين في ممارسة العنف، كما تدل مواثيق الأشهر الحُرُم التي يمنع فيها القتال، أو الأمكنة الحرم التي من يدخلها يصبح آمناً. ثم إن القتال كان يجري، يومئذٍ، بين قادة يتبارزون، فمن يفوز يعد فريقه فائزاً. وهكذا فقد ابتكر الجاهليون وسائل وآليات للحدّ من الاحتراب المفضي إلى الفناء المتبادل.

لنعترف بأن أهل الجاهلية كانوا أكثر منا، نحن المعاصرين، تمدّناً وتحضّراً ورأفة، وإنه لمما يبعث على السخرية أن نرمي عليهم، عند كل مصيبة، أخطاءنا وعيوبنا وآفاتنا. فالأجدى إعادة النظر في مقولاتنا ومنهج حياتنا وطرق تعاملنا مع القضايا والشعارات.

ـ من المهازل، في لبنان، أنه ما من مرة جرت اشتباكات، بين أبناء الخط الواحد، السياسي أو الديني، كما جرى مؤخراً بين حزب الله والأحباش، إلا وقيل إنها laquo;حوادث فرديةraquo;، ليست لها خلفيات سياسية أو دينية. ومنهم من يسدل الستار على عقله، لكي يقول إن مثل هذه التصرفات هي غريبة عن عاداتنا وتقاليدنا وتراثنا.

ولكنهم لا يفعلون بذلك سوى طمس الواقع الذي يفضح هشاشة الشعارات، ذلك أن ما حدث، في زواريب بيروت، قد اتخذ طابعه الطائفي بالسرعة القصوى. صحيح أن الذين اقتتلوا ينتمون إلى خط سياسي واحد أو إلى محور استراتيجي واحد، ولكن العصبية المذهبية قد تغلبت على الحزبية السياسية التي هي مجرد قشرة على السطح.

ولا غرابة أن يحصل ذلك، ما دام كل من التنظيمين المسلحين هو تشكيل طائفي صافٍ، ببنيته وعناصره، وثقافته الخاصّة، ومنطلقاته العقائدية والفقهية، وكل ذلك يتجسد تبايناً وخلافاً في اللغة والرموز والخطابات الداخلية المتداولة، لدى كل تنظيم أو تشكيل سياسي، مما يجعل من الشعارات الوطنية أو الإسلامية الجامعة، اسماً على غير مسمى. فكيف اذا كانت الأجواء السائدة في المنطقة هي أجواء الفتن المذهبية الشغالة في غير مكان، كما يجري في العراق بنوع خاص؟!

ـ وهكذا لا يجدي نفعاً أن ندفن رأسنا في الرمال، عند كل حادثة، لكي نقوم بتجهيل الفاعل، أو برد الحوادث إلى عناصر غير منضبطة، أو بلصقها بالعملاء والخونة. فما الذي يجعل أبناء الصف الواحد، كما حدث ولا يزال يحدث، منذ عقود، يطلقون النار على بعضهم البعض بكل خفة، بل بكل شراسة ووحشية؟! وما الذي يدفعهم إلى الاعتداء على دور العبادة، كما جرى هذه المرة في لبنان، وكما يجري دوماً في العراق؟!

إنها النفوس الموتورة والعقلية المفخخة والثقافات العدوانية والأحقاد الدفينة التي تنفجر نزاعات وفتناً، تعبّر عن نفسها في أعمال التصفية المادية والرمزية للمختلف والآخر، شقيقاً كان أم عدواً.

وذلك يعني أن الأحزاب الدينية التي تشتغل كمصانع لتأجيج الذاكرة الموتورة وتخزين العنف الرمزي، إنما تتحول عندما تصبح منظمات أو ميليشيات مسلّحة، إلى مصانع لإنتاج الحروب الأهلية والفتن المذهبية.

وتلك هي حصيلة الاستيلاء على الفضاء العام والحلول محلّ الدولة. هذا هو أصل المشكلة، اذا شئنا، لا تمويهها، بل وضعها على مشرحة الدرس، لكي نحسن معالجتها.