بين القس جونز وابن لادن
جميل الذيابي
الحياة اللندنية
ثمة قاسم مشترك بين القس تيري جونز وraquo;شيخraquo; تنظيم laquo;القاعدةraquo; أسامة بن لادن. إنه التطرف، والعفن الفكري، وكراهية الآخرين. بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، كتبت الصحافة أن ابن لادن رجل واحد في مواجهة العالم بأسره، وقبيل ذكرى 11 سبتمبر في 2010، يمكن أن يكون العنوان المناسب أن قساً أميركياً يتحدى العالم ويحرك الإعلام خلفه. الحقيقة القائمة، أن العالم لن يخلو من laquo;نزقraquo; الكارهين والحاقدين والمجانين والمبغضين للآخرين، لكن قدرة الإعلام الجديد على سرعة نقل سيل الأخبار وتناولها وتحليلها في اللحظة نفسها زادت من مضغها حتى أصبح العالم كله كأنه يسكن في غرفة واحدة، يقرأ ويشاهد أخبار بعضه، ويتأثر بها ويؤثر فيها، حتى أصبحت لابن لادن قيمة، وللقس جونز شهرة.
لا تركز هذه المقالة على ابن لادن الذي أصبح معروفاً بالتطرف والإرهاب والاختباء في الكهوف، لكنها تركز على المريض الجديد القس الأميركي تيري جونز الذي حبس الدم في عروق العالم خوفاً من صدام جديد بين الأديان والثقافات.
تقول التقارير الصحافية إن تيري جونز فاشل طوال حياته، لكنه نجح أخيراً في تسليط الأضواء الإعلامية عليه بعد دعوته أتباعه إلى حرق القرآن الكريم في ذكرى 11 أيلول (سبتمبر)، اعتراضاً على بناء مسجد بالقرب من موقع مركز التجارة العالمي. يبلغ جونز من العمر 58 سنة، عمل منها 30 عاماً في التبشير الفاشل، حتى إن كتابه laquo;الإسلام من الشيطانraquo;، الذي أصدره قبل شهرين لم يجد من يشتريه سوى قلة، لكنه بعد أن دعا إلى حرق المصاحف وجد شهرة عالمية، وبيع منه نحو 200 ألف نسخة. فيما تعد كنيسته من الأفشل، إذ لم يجمع لها سوى 51 عضواً، ما يؤكد أن فشله التبشيري حفزه إلى تلك الدعوة laquo;الكريهةraquo; لتسلط عليه الأضواء إعلامياً، مستغلاً بذلك كرهه للإسلام.
شخصية تيري الفاشلة لا تخبئ وراءها فكراً أو معرفة، إذ كشفت شبكة laquo;سي بي إسraquo; التلفزيونية الأميركية، أن قاضياً أميركياً استدعاه الشهر الماضي حينما أعلن خططه، فاتضح له أن جونز وزوجته لا يعرفان سوى القليل عن الإسلام والقرآن. وقالت الشبكة إن القاضي سأل جونز كم مسلماً يعرفه شخصياً، فقال إنه لا يعرف أي مسلم.
لنتمعن في حجم الاهتمام وردود الأفعال بهذا laquo;النكرةraquo; من داخل الولايات المتحدة، فالرئيس باراك أوباما اعتبر دعوته بمثابة laquo;هدية للقاعدة ستؤدي إلى تجنيد أعداد كبرى لحساب التنظيم الإرهابيraquo;، فيما وصفت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون خطط إحراق المصاحف بـlaquo;المشينة والضالةraquo;. وأسف وزير العدل أريك هولدر لعمل جونز، واصفاً تلك الدعوة بأنها laquo;غبية وخطرةraquo;، فيما قال ريتشارد كيزيك أبرز القادة الإنجيليين: laquo;عيب على كل المتعصبين الرافضين لإخوتنا الأميركيين بسبب دينهمraquo;. في الجانب الآخر، تواصلت ردود الأفعال الدولية، إذ لم تتبقَ دولة لم تصدر استنكاراً أو تنديداً، بخلاف المنظمات العالمية أيضاً، إذ أعلنت الشرطة الدولية (الإنتربول) أنها وجّهت تحذيراً شاملاً إلى أعضائها الـ188، من تصاعد العنف، واحتمال حصول هجمات تستهدف أبرياء فيما لو أُحرقت مصاحف. وفي برلين، وصفت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مسعى جونز بأنه laquo;قلة احترام وعمل مشين وخاطئraquo;. ووجّه الرئيس الإندونيسي بامبانغ يودويونو رسالة إلى أوباما حذّر فيها من أن ذلك laquo;قد يؤدي إلى نزاع بين الأديانraquo;، فيما اعتبر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أن إحراق المصاحف laquo;قد يُتخذ ذريعة من المتطرفين لمزيد من عمليات القتل والقتل المضادraquo;. أما الرئيس الباكستاني آصف زرداري فندّد بمخطط جونز، معتبراً أنه laquo;سيلهب مشاعر المسلمين في العالم بأسره وسيحدث ضرراً لا عودة عنه للانسجام بين الأديان والسلام في العالمraquo;. وحذّر laquo;مجلس الكنائس العالميraquo; الذي يمثّل 349 فرعاً في المسيحية، وraquo;منظمة المؤتمر الإسلاميraquo; والأزهر من laquo;كارثة على العلاقات الإنسانية والتعايش السلميraquo;. كما دان الخطوة الاتحاد الأوروبي والرئيس اللبناني ميشال سليمان والفاتيكان وآخرون.
لكن إذا تساءلنا: كيف سيكون رد فعل جونز فيما لو حدث تجاهل لدعوته ولم يكترث بها أحد بدلاً من مناقشتها وملاحقتها واستجدائه هو وأتباعه؟ بالتأكيد كانت مثل تلك الدعوة laquo;الجوفاءraquo; لتموت ولا تتجاوز حدود مدينته الصغيرة (غينسفيل)، مثلما ظل فاشلاً طوال 30 عاماً من حياته التبشيرية، ولم يسمع به أحد.
لكنه الإعلام الجديد القادر على النشر والانتشار بسرعة laquo;فائقةraquo;، والذي يصنع أحياناً من المرضى والمعتوهين نجوماً. كل ما كان يتمناه جونز هو لفت الأنظار إليه والاهتمام به، حتى إن آخر مطالبه قبل أن يتراجع عن خططه هو أن تتحدث إليه السلطات الأميركية. طبعاً ربما ليقول للأميركيين laquo;أنا مؤثِّر... إذاً أنا موجودraquo;.
لا شك في أن دعوة جونز استفزازية وكريهة وبغيضة، لكن يجب على المسلمين في المقابل عدم المبالغة في رد الفعل، حتى لا يتحول العالم إلى كتلة من المحارق والدماء، بسبب الانجرار خلف دعوات العنصريين والمتطرفين والمعتوهين والمرضى النفسيين.
عبدالله بن بجاد العتيبي
11 سبتمبر: تجديد الخطاب التقليدي أم إلغاؤه؟
الاتحاد الإماراتية
شئنا أم أبينا، لقد أصبح الحادي عشر من سبتمبر عيداً لكارهينا وكارهي الأمة والشعوب والدول التي ننتمي إليها، وبرغم كل ما بذلنا، وبرغم كل ما قدّمنا، وبرغم كل ما أنفقنا، للبراءة أولاً وللشرح ثانياً ولتحسين الصورة ثالثاً، فلم نزل منذ عقدٍ من الزمان نلعق جراحنا، ونلوك ذات الأحاديث ونردد نفس الكلام، ونكرر عين التبريرات، دون أي فائدةٍ تذكر.
لأننا نغفل عن الصورة الكبرى، فتشغلنا الصراعات الصغيرة محلياً حيناً، ويلهينا الاحتراب الإقليمي أحياناً، وإن كان ذلك أمراً طبيعياً، فإن الأجدى لنا رؤية الصورة كاملةً، فبعد الحادي عشر من سبتمبر تغيّر العالم وجرت في ساقيته بحارٌ جديدة لا مجرّد مياهٍ، ونحن في غيّنا سادرون وفي مشاكلنا الصغيرة غارقون.
تحدثنا الأخبار عن قسٍ مجهولٍ في أميركا، يهدد دولته العظمى ويهدّد العالم بأسره بإشعال الكراهية والأحقاد والعداوات، وذلك عبر دعوته وتبنّيه لعمل أخرق يتمثّل بحرق المصحف في كنيسته الصغيرة النائية، وبالمقابل، تعمل بعض الجماعات والأفراد في عالمنا العربي والإسلامي على خطف سائح هنا واعتقال سائحة هناك، وقد تتطوّر الأعمال لتفجير مبنى، أو قتل جماعة من البشر في مناسبة دينية أو غيرها، بما يمكن اختصاره بالتخريب.
شغل العالم الإسلامي بمحاولات إصلاحية ضخمة كان منطلقها الحادي عشر من سبتمبر وآثاره، فقد تنبّه الجميع بأن خطر التطرف والإرهاب ndash;كعادته- لا تحدّه الجغرافيا ولا يحكمه الزمن، ولكنّه قادر على التجدد والتمدد، وعلى استغلال كافة الظروف والمعطيات لتأكيد الحضور والتأثير والقدرة على النموّ.
حين دقّت ساعة الحادي عشر من سبتمبر بالطائرات لا بالعقارب، كان العالم على موعد مع حقبة جديدة في علاقاته وتعاملاته وصلاته، شعر الجميع أننا على أعتاب عالم مختلف بأولويات متغيرة عمّا كان قبله، فتصدّر الإرهاب سياسات العالم وأشغل إعلامه واستنزف شعوبه ودوله.
بالنسبة لنا عرباً ومسلمين فإن مضارّ الحادي عشر من سبتمبر تركّزت علينا، فبالإضافة لكونه جريمة إنسانية بكل المقاييس، فهو بالنسبة لنا جريمة بحق حاضرنا وحضارتنا وتاريخنا وثقافتنا، لقد تمّ وضعنا بعده تحت مجهر البحث والتحليل، والقراءة والدرس، وصار العالم ينظر إلينا نظرة الريبة والشك إن لم نقل الاتهام.
ماذا يعني أن يثير بناء مسجدٍ في نيويورك كل هذه الجلبة والاحتجاجات داخل أميركا؟ وماذا يعني أن يكون تهديد قس متطرف مغمور شغل العالم الشاغل فيخرج المئات إن لم نقل الآلاف في مظاهراتٍ حاشدةٍ في باكستان وإندونيسيا وغيرهما من البلدان؟ وماذا يعني أن يكون رسّام كاريكاتير مغمور في بلد صغير مثار السخط العارم في العالم الإسلامي، ومثار الإعجاب في الغرب لدرجة منحه جائزة من المستشارة الألمانية ميركل؟ وماذا يعني أن يصبح كل عمل تتبنّاه quot;القاعدةquot; أو من ينتسب إليها محلّ تركيز العالم بأسره ووجبة دسمةً للإعلام وأخباره ومحلليه؟ إن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا السياق المتغيّر بعد الحادي عشر من سبتمبر، هو أنّ العالم المنخرط في quot;العولمةquot;، قد أصبح شديد الحساسية وسريع الاشتعال، فالنفوس محتقنة، والتهم بين الأطراف جاهزة.
ثمة مظالم سياسية في العالم، وصراعات على المصالح والنفوذ ونحوها، وهذا طبيعي وإلا لفقد العالم معناه، وثمة أحقاد تاريخية كانت تتراكم تحت الرماد فنفخ الحادي عشر من سبتمبر رمادها ليخرج الجمر ويسهل اشتعال النار، ومنذ ذلك اليوم المشؤوم ونحن نسعى لتحسين الصورة، ولتوضيح أنّ هذه الشرذمة quot;القاعديةquot; لا تمثّل إلا نفسها، وأنها تستهدف المسلمين أكثر من غيرهم، لا تفرّق بين ضحايا تخريبها لا بالدين ولا باللون ولا بالجنس.
اعترف بأنّ ثمة جهوداً جبّارة بُذلت لتصحيح الخطأ وتدارك المعضلة، ولملمة الآثار المدمّرة لهذا الحدث الاستثنائي، ولكنّها لم تؤت أكلها كما ينبغي، رغم ضخامة الصرف وصدق النوايا، ونبل الهدف، ولنا هنا أن نتساءل أين الخلل؟
رفعت شعارات الإصلاح الديني في أكثر من بلد من المغرب إلى البحرين، وفي أغلب البلدان العربية والإسلامية، وكانت معارك إصلاح التعليم الأكثر شراسة بعد اكتشاف الخلل الفظيع الذي كان فيه من مناهجه لمناشطه لمعلميه، وأقام العقلاء أسواق الحوار بين الحضارات وبين الأديان وبين الطوائف، الكلّ يحاول استلال الشرر قبل أن يحرق العالم، ولكنّ الفائدة ظلّت دون المستوى حتى الآن.
ثمة نظريتان ذاتا فروع في أنجع السبل لمواجهة التطرّف والإرهاب وquot;القاعدةquot; وغيرها، الأولى: وهي السائدة، تتمثل في محاولة مزاحمة quot;القاعدةquot; على ذات الخطاب التقليدي الذي تنطلق منه وتقديم تأويلات له تدعم أحقية طارحيه بتمثيله وبيان خطل quot;القاعدةquot; في انتمائها له وقد حظيت هذه النظرية بكافة أنواع الدعم المادي والمعنوي وبلا حدود، والشواهد عليها في كل البلدان أكثر من أن تحصى، وملأت القنوات والصحف برجال دينٍ ينظّرون ويردّون على quot;القاعدةquot;، وتائبين من الإرهاب ينظّرون بكل قوةٍ ضدّه وضدّ أفكاره، ومراجعات في أكثر من بلد، تركيزها على التفاصيل داخل الخطاب التقليدي لا ثورة عليه.
أمّا الثانية: وهي الأقل رواجاً، فتتمثل في محاولة إعادة الاعتبار للتأويل والاجتهاد الديني الجديد، أي المنعتق من أغلال الخطاب التقليدي والطامح لتقديم تأويلات أكثر مدنية والتصاقاً بالعصر ومصالحه، فباب الاجتهاد ينبغي أن يظلّ مفتوحاً على الدوام لكافة النظريات الجديدة في التأويل والنقد وإعادة القراءة، فلا يجوز أبداً الوقوف عند جهدٍ بشريٍ تمّت كتابته في ثنايا التاريخ ليكون هو التراث الحاكم على قرونٍ متجددة وعصور مختلفة تمام الاختلاف، مهما حاولنا تشقيقه وليّ أعناقه واللف والدوران فيه وعليه.
الأولى لم تُجد ولم تنفع كثيراً رغم الدعم اللامحدود الذي حظيت وتحظى به حتى الآن، والثانية لم تجرّب بعد وليس لها من الزخم والتماسك والتأثير ما يمكن من مراقبتها ومحاكمتها، فهي لم تزل تحبو بين النخب المثقفة وفي دوائر صغيرة ومغلقة، فلم تحظ لا بالدعم السياسي ولا بالزخم الجماهيري.
الصّراعيّون ملأوا العالم بتنظيراتهم المتطرفة ونظرياتهم المهترئة وتصريحاتهم المجازفة، ومن الأمثلة التصريحات التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش حول الحروب الصليبية، وتلقّفها عنه متطرّفونا ليجعلوها محور كل الحراك الغربي الضخم، ويصبّوا الزيت على نارها، أو تصريحات مشابهة يدعو فيها جنرال أميركي إلى هدم الكعبة، ويقابله متطرّف عربي مسلم بالدعوة لهدم الحرم المكّي كلّه، اختلفت أسباب ودواعي كلٍ منهما واتفقت في الغاية فالنتيجة واحدةٌ، طغيان الرؤية المتطرفة وسيطرة جنون الارتياب الذي تظلله العداوة وتسقيه الكراهية.
ينبغي لنا أن نجرّب النظرية الثانية، نظرية التجديد الحقيقي والتفكير خارج صندوق التراث والمألوف والمعتاد، ودعم المفكّرين والمثقفين وكل صاحب رأيٍ لطرح رؤيته المختلفة عن الخطاب التقليدي، ولتقم سوق النقاشات والنقد والنقد المضادّ علّنا أن نخرج بتصوراتٍ جديدةٍ يكون لها من الفائدة ما نرجو ونؤمل، ومن التأثير ما نرغب ونريد، وليكن الحوار على الدوام بديلاً للصراع. وكل عامٍ وأنتم بخير.
مزيج من quot;الفوبياquot; والصحوة
محمود الريماوي
الخليج الأماراتية
تبين أن المدعو تيري جونز أراد بفعلته الشنعاء المساس بنسخ من القرآن الكريم، أن يبدي اعتراضه على بناء مسجد قرب برجي التجارة في نيويورك، وهو ما كشفت عنه مقايضته السقيمة التي أعلن عنها الخميس الماضي التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، حين دعا إلى وقف مشروع بناء المسجد مقابل تخليه عن فعلته الخرقاء . هكذا أراد الرجل الاعتراض على طريقته على مشروع لقي موافقة قانونية في بلد لا يحظر إقامة دور العبادة لسائر الأديان التوحيدية منها وغير التوحيدية . أراد هذا الشخص بذلك أن يأخذ بلده رهينة، إلى أن يصار إلى قبول وتنفيذ اعتراضه وفي بلد يزخر بوسائل الاعتراض القانونية على الشؤون الداخلية . ولقائل أن يقول هنا إن الحماقة المشينة لهذا الشخص تدخل في بلاده ضمن حرية التعبير، وأن من أراد الاعتراض على ldquo;الفكرةrdquo; فإن له ذلك في مناخ يضمن حرية التعبير . وهو رأي مردود عليه، إذ إن فعلته تمس بالأمن القومي لبلاده، وتشكل طعنة صفيقة لعقيدة أكثر من مليار مسلم، ملايين منهم أمريكيون . وما كان لأتباع الديانات أن يفكروا بالمساس بكتب مقدسة لدى أتباع أديان أخرى، ويعلم المرء أي عقاب ينتظر على سبيل المثال المساس بالعقيدة اليهودية في الولايات المتحدة .
لقد اتخذت هذه المسألة طابعاً كونياً، كونها تحمل مخاطر بعيدة المدى حملت حتى أمين عام حلف الأطلسي على التحذير الشديد منها . غير أن لنا أن نسجل بضع ملاحظات بصرف النظر عن طبيعة التطورات اللاحقة .
الملاحظة الأولى، أن الإدارة الأمريكية أعربت عن مواقف مبدئية صائبة في إدانة هذه الفعلة وخاصة في التصريحات التي أطلقتها وزارة الخارجية ووزارة العدل وأطراف رسمية أخرى . وما كان لها إلا أن تتخذ هذه المواقف، وسوى ذلك فإن تعددية الأديان وحرية التعبير تتحول كلتاهما إلى ترخيص باستباحة عقائد الآخرين، وفتح الأبواب أمام صراعات مقيتة تتخذ طابعاً دينياً صريحاً وخطيراً . غير أن التساؤلات ظلت مثارة حتى إعلان القس المجنون التراجع عن فعلته حول ما إذا كان في وسع وزارة العدل تحريك دعوى ضده وتوقيع عقوبات قانونية بحقه استناداً إلى أن مخططه يمس بالأمن القومي ويهدد السلام الاجتماعي . إنه مجرد تساؤل . مع الإدراك أن ذلك الرجل معزول في فلوريدا، وأن أتباعه لا يتعدون خمسين شخصاً، وأن هدفه الشخصي بتحقيق شهرة رخيصة قد تحقق بالفعل .
الملاحظة الثانية، أن المسلمين في أمريكا وعديدهم يبلغ نحو سبعة ملايين نسمة، أبدوا ضبطاً للنفس يثير الإعجاب، وذلك رغم نسبة الاستفزاز العالية ولم ينجرفوا إلى ردود فعل انفعالية، بل إن بعض رموزهم مثل الناشط القيادي نهاد عوض، حذر مما سماه كميناً ينصبه ذلك الشخص ومعه حفنة من الأشخاص الموتورين، لاستدراج المسلمين وتصويرهم على أنهم دعاة ورواد عنف ثم تهيئة مزيد من الضغوط عليهم لاحقا .
الملاحظة الثالثة، أن الدعوة السقيمة للمدعو تيري جونز لم تلق صدى ينم عن أي درجة من درجات القبول بها، لدى غير المسلمين من المنظمات والهيئات الاجتماعية والروحية الأمريكية، ما عزز هامشية هذه الدعوة وفرديتها، وانغلاقها (اقتصارها)على صاحبها رغم الضجيج الإعلامي الذي أحاط بها . وفي واقع الأمر فإن شذوذ الفكرة وعزلة صاحبها أسهما في ما أبداه المسلمون من انضباط واحترام للنفس يثيران الإعجاب، وحملت غير المسلمين على أن يكونوا في مقدمة المنتقدين في الولايات المتحدة كما في سائر أرجاء العالم .
الملاحظة الرابعة، أنه رغم ما تقدم، فإن ldquo;فوبياrdquo; الإسلام والمسلمين ما زالت تفعل فعلها ولو في مناطق معتمة بعيدة عن الأضواء . هناك بالطبع من ينفخ في هذه الظاهرة ويذكي أوارها في أوساط يمينية متطرفة بعضها متصهين في الغرب . غير أن هناك مسؤوليات تقع على المسلمين في تظهير صورتهم على النحو الذي يأملون . وتقتضي الأمانة القول إن ممارسات مديدة تؤدي إلى إبراز صورة أخرى؟ وإلا كيف يحكم المرء على ممارسات يتم اقترافها منذ أعوام في بلد مثل الصومال حيث يسقط يومياً العشرات من الضحايا المسلمين على أيدي جماعات تحمل مسميات إيمانية؟ وكيف يصف المرء استهداف المساجد وأبناء الطوائف المسلمة الأخرى في الباكستان، وهي ldquo;أنشطةrdquo; تم استئنافها في ذلك البلد المنكوب ما إن بدأت مياه الفيضانات في الانحسار وقبل دفن الضحايا؟ والأمر ينطبق بدرجة أو أخرى على بعض الممارسات التي ما انفك العراق الجريح يشهدها وتستهدف مسلمين، فرادى وجماعات، من طرف مسلمين آخرين يزعمون أنهم يأخذون بصحيح الدين دون سواهم من المؤمنين . لقد أثبتت ردود الفعل على دعوة القس الأمريكي المزعوم أن البشرية هنا وهناك ما زالت تتوجس من الانزلاق إلى صراعات عمياء، وأن التطرف المسعور لا يلقى كثرة من الأنصار والمؤيدين، ولعل ما جرى يمثل مؤشرات إلى صحوة ضميرية وذلك أمام خطر داهم يهدد الأخضر واليابس، بانتظار أن تفعل هذه الصحوة الأولية فعلها في جبه مخاطر وشرور أخرى كالهيمنة والاحتلالات وعسكرة العلاقات الدولية واختلال الأمن الغذائي .
التعليقات