عبدالعزيز حمد العويشق

إن إعطاء هذه الأهمية لمثل تيري جونز يزيد من تأثيره على المتطرفين الذين سيستقطبهم حتماً، كما يغذي مشاعر الكراهية نحو المسيحيين، وقد يدفع بعض المتشددين إلى اتخاذ أعمال عدوانية تجاههم

ألغى تيري جونز، راعي تلك الكنيسة المغمورة في فلوريدا ndash; أخيراً - خُطّته لإحراق 200 نسخة من القرآن الكريم بعد أن أحرز من الاهتمام والسمعة ما لم يكن يحلم به. فما هي أسباب هذا الموقف؟ وكيف استطاع شخص مغمور، قليل الذكاء والإمكانات على ما يبدو، أن يقوم بما قام به؟ وهل كان من الحكمة كل هذا الاهتمام.
الإجابة عن هذه التساؤلات تلقي ضوءاً على طبيعة المذاهب البروتستانتية التي ينتمي إليها جونز، وتشابك المشاعر الأمريكية المتعلقة بالمسلمين مع الشعور بالضعف والإهانة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر لديهم، وما يحسّ به المسلمون من ظلم وعدوان أمريكي في أماكن مختلفة من العالم المسلمين. ولذلك أخذ هذا العمل الذي كان مخططاً له أبعاداً تتجاوز كونها تصرفات رجل ناقص الحكمة والذكاء، لا يمثل سوى حفنة من المتطرفين.
ولفهم ذلك، لننظر أولاً إلى طبيعة العقيدة البروتستانتية التي تسمح لأي كان، مهما كانت خلفيته التعليمية أو الدينية أو الأخلاقية، بأن يبدأ quot;كنيستهquot; الخاصة، ولا يُقصد بالكنيسة هنا المبنى أو محل العبادة، بل المذهب.
وكما هو معروف أتت البروتستانتية احتجاجاً على الكنيسة الكاثوليكية التي احتكرت لأكثر من ألف سنة حق تفسير الإنجيل وإنشاء الكنائس، ومحاكمة المخالفين وحرقهم أحياءً، كما تم في محاكم التفتيش، وتميزت هذه الكنيسة بهيكل مركزي هرمي على رأسه البابا الذي كان من مهامه تنصيب الملوك وشن الحروب، فضلاً عن دوره كرقيب على تفسير الإنجيل، ويُعتبر البابا معصوماً عن الخطأ، باعتباره خليفة وممثل المسيح في الأرض. ولذلك لا تسمح الكنيسة ndash; حتى في يومنا هذا ndash; بالخروج عن التفاسير التي تقرّها سلطاتها المختلفة، وأهمها مجلس الكرادلة والبابا نفسه، وتُخرج من الملة من لا يلتزم بتلك التفاسير.
وكردة فعل أطلقت البروتستانتية العنان لأتباعها وألغت احتكار الدين من قبل الكنيسة الكاثوليكية ولكنها لم تؤسس سلطة كهنوتية جديدة على نحو الكهنوت الكاثوليكي، وأزالت جميع القيود على إنشاء مذاهب جديدة، وإن كان المتوقع أن يعلن صاحب أي مذهب إيمانه بالمسيح والالتزام بالعهد الجديد، ولكن ليس هناك سلطة من أي نوع تدقق في مثل هذا الادعاء. بل يقوم كل مذهب بتلك المهمة، ولكن من لا يعجبه ذلك يستطيع إنشاء مذهبه الخاص.
ووفقاً للموسوعة المسيحية العالمية World Christian Encyclopedia يتجاوز عدد quot;المذاهبquot; البروتستانتية 33 ألف مذهب، ولا يشمل هذا العدد الكثير من المذاهب التي لا يتجاوز أتباعها بضع مئات.
وهناك بطبيعة الحال مذاهب رئيسية في البروتستانتية لها هيكلها الديني والتنظيمي، وتمارس نوعاً من الانضباط على أتباعها، مثل الإنجليكانية (المذهب الرئيسي في إنجلترا)، والمشيخية (المذهب الرئيسي في سكوتلندا وكندا وأستراليا)، والمنهجية (مذهب منتشر في أمريكا)، وتمثل هذه المذاهب توجهاً متنوراً في المسيحية، ولها مواقفها المبدئية من القضايا الدولية، مثل قضية فلسطين والبوسنة وغيرها. ونادراً ما تسمح عن هذه المذاهب الرئيسية مواقف متطرفة فيما يتعلق بأتباع الأديان الأخرى.
ولكن هناك آلافاً من الكنائس التي تنضوي تحت مسمى البروتستانتية، وتختلف في توجهاتها اختلافاً كبيراً، وتجد في كل حي وفي كل قرية تقريباً في أمريكا مذاهب مختلفة من المذاهب البروتستانتية، لا يتجاوز أتباع بعضها مئات. ولا يعدو بعضها أن يكون غطاءً لمشروع استغلالي أو حتى إجرامي يتمحور حول عبادة شخصية قائد أو مؤسس المذهب. ويأخذ ذلك في العادة صفة مالية أو جنسية، بحيث يستغل قائد المذهب الدين للاحتيال على أتباعه. وفي أحيان قليلة، يأخذ المذهب صفة أكثر عنفاً، مثل الانتحار الجماعي، ورفض دفع الضرائب، والإرهاب، وحمل السلاح ومقاومة السلطات الرسمية، وغيرها، وتكون النتائج مأساوية دامية.
ولذلك فإن من الخطأ أن يستنتج المرء من تصرفات quot;القسquot; تيري جونز أن ذلك يعكس تفكير الكثير من الأمريكيين، فاستطلاعات الرأي تُظهر أن هناك أقلية محدودة فقط تؤيد مثل هذا العمل البغيض. أما كنيسته التي تُسمى اسماً غريباً هو حمامة التواصل العالمية Dove International Outreach فلا يتعدى أتباعها بضع مئات على أكبر الاحتمالات، وتعارضها أغلبية سكان مدينة Gainseville المعروفة بتسامحها وانفتاحها على أتباع الأديان الأخرى، والذين استهجنوا تصرفات القس الباحث عن الشهرة والمال.
ومن الخطأ كذلك أن نعطي أهمية كبرى لمثل هذا الفرد، والحال كذلك، لأن منحه هذه الأهمية يزيد من تأثيره على المتطرفين من أتباع المذاهب الأخرى، الذين سيستقطبهم حتماً. كما أن إعطاء الإيحاء بأنه يمثل شريحة كبيرة من المذاهب المسيحية يغذي مشاعر الكراهية نحو المسيحيين، وقد يدفع بعض المتشددين إلى اتخاذ أعمال عدوانية تجاههم.