خالد الأنشاصي
تتسارع الأيام، تنفرط كحبات سنبلة، ويجف العود الذي تمايل زهواً باخضراره ونضارته ذات يوم، قبل أن يشهد نهايته المحتومة. تلك هي سنة الحياة، وسبحان الذي له الدوام.
لا شيء يُحزن في الموت قدرَ الفراق، فراق الأحبة، فراق الأهل، فراق الأصدقاء، فراق الذين عاشوا لغيرهم فاستحقوا دوام الذكر في القلوب والعقول.
من هؤلاء الذين لا يمكن نسيانهم المفكر والفيلسوف الجزائري محمد أركون الذي ما إن انتهت أيام العيد حتى فجعنا بمصابنا فيه.
لم يكن أركون مجرد شخص عادي أو باحثٍ مجتهدٍ أو مفكرٍ تقليدي. هو عقلٌ يصعب تكراره على المدى المنظور. تجربةٌ شديدة الثراء حاولت قدر استطاعتها أن تعالج ما اكتشفت من علل في جسد الفكر العربي والإسلامي على مدار عقود. وسواء اتفقنا أو اختلفنا على بعض طروحاته، يظل أركون مشعلاً حقيقياً من مشاعل التنوير، ومنبراً ستظل إشعاعاته معيناً رحباً للعقل العربي والإنساني بشكل عام مهما طال زمن الفراق، وما دامت رغبة العقل العربي - والإسلامي تحديداً - في القراءة والبحث والسعي للإصلاح.
والآن، وقد هدأ واستراح أركون، أعتقد أن كل دعاوى التكفير التي طالته، وكل وصمات الإلحاد التي حاولت تلويثه، سوف تتراجع شيئاً فشيئاً، تماماً كما حدث مع طه حسين، ثم نصر حامد أبو زيد، وسيفسح الطريق لفلسفة وفكر وعقل ومنهج ومنطق الرجل من جديد، ولكن برؤية مغايرة، رؤية تسعى للدراسة والتحليل، لا الرفض الأعمى، أو التشويه المتعمد بغير أساس، وكأننا كان بيننا وبين الرجل ndash; في حياته ndash; ثأر شخصي!.
نعم، أعتقد أننا سنكون على موعد آخر مع أركون، أركون العقل والفكر والرؤية والحوار، سنقرؤه من جديد، وسنتفق معه كثيراً وربما نختلف أكثر، لكننا ndash; أعتقد ndash; سنكون في إطار منهجي وعلمي، وإن أخذتنا العاطفة مرة أخرى، فلن تكون ممثلة إلاّ في دعاء واحد: (رحمه الله)، تماماً مثلما فعل أشد الساخطين على بعض طروحات غازي القصيبي فانتابتهم الأحزان (أو قل وخزهم الضمير) بعد رحيله فقالوا أيضاً: (رحمه الله)، وكما قالوا عن طه حسين من قبل أيضاً: (رحمه الله)!.
صعب ndash; أرى - أن نتهم العقول المفكرة بـ(الكفر)، وليس مطلوباً ndash; أرى أيضاً ndash; أن نسمها بـ(الإيمان)، وليس منطقياً أبداً أن يتجلى دورنا الأبرز في هذه الحياة في الحكم على عقائد الناس ومحاكمة نواياهم، وكأننا أوصياء على البشر.
ماذا لو أخضعنا الفكر للفكر، والرؤى للرؤى، وأخذنا من مفكرينا وعلمائنا ما اعتقدنا أنه مفيد، وتركنا ما اعتقدنا أنه ضار، تماماً مثلما نأخذ من الغرب تكنولوجياته وعلومه وتقنياته الحديثة، ونترك عاداته التي تخالف ثوابتنا؟!.
التعليقات