بهجت قرني


كان وصولي إلى تركيا بعد ثلاثة أيام فقط من الاستفتاء على التعديلات الدستورية الـ26 التي أجريت يوم الأحد 14 سبتمبر، واختيار هذا التاريخ نفسه كان له أهمية رمزية لأنه يأتي بعد 30 عاماً من الانقلاب العسكري في 1980 (الثالث في عشرين عاماً). لذا كان الجزء الخاص في هذه التعديلات بتقليص سلطة العسكر هو أهم ما لفت الانتباه في الداخل والخارج. وقد صالت أجهزة الإعلام وجالت حول أهمية هذا الاستفتاء، مما يدفعك لأن تراقب النتائج وتتحسب لها قبل وصولك آخر عاصمة للخلافة الإسلامية، اسطنبول. والحقيقة، أن هذه المدينة التاريخية العريقة لها مذاق خاص، فهي لم تكن عاصمة الإمبراطورية العثمانية لحوالي 5 قرون فحسب، لكنها كانت قبل ذلك عاصمة للإمبراطورية الرومانية أيضاً، وبالتالي فإنك تشعر بهذه العراقة والهيبة حتى لو تعددت زياراتك مراراً وتكراراً. ثم إن تقاسمها بين آسيا وأوروبا عن طريق قنطرتها الشهيرة، يضيف إليّ تميزاً آخر. وبالرغم من أنها عادة تميل إلى الاتجاه الأوروبي، فإن ما لفت نظري هذه المرة هو زيادة عدد المحجبات، بمن فيهن صغيرات السن، ولا شك أن هذا مرتبط أشد الارتباط باتجاه الحكومة الحالية للسماح بالحجاب في المباني الحكومية. لاحظت أيضاً تكرار سماع الأذان بمكبرات الصوت من عشرات المآذن لمساجد كانت في الأصل كنائس للإمبراطورية الرومانية.

لكني كنت أود تجاوز الانطباعات السطحية والوصول إلى الحقائق العلمية عن هذا الاستفتاء الذي يتعرض لأسس الدولة التركية منذ أقامها أتاتورك في عشرينيات القرن الماضي: مكانة الجيش كحارس أمين ووصي على علمانية الدولة. وعرفت قبل وصولي أن نتيجة الاستفتاء كانت 58 في المئة من الموافقين بينما اعترض 42 في المئة، لكني كنت أود معرفة المزيد. من هنا كان اجتماعي مع أساتذة الاقتصاد والعلوم في جامعة quot;بهانسيquot;، وخاصة أعضاء quot;مركز اسطنبول لتحليل السياساتquot;.

1- فاق عدد المشاركين في التصويت معظم التوقعات، حيث بلغ 77 في المئة ممن لهم الحق في التصويت، أو 39 مليون نسمة، وهي نسبة رهيبة ليس فقط في منطقتنا، ولكن أيضاًٍ بالمقارنة مع دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الديمقراطيات الغربية العريقة، وهذا بالرغم من حملة بعض الأكراد لمقاطعة الاستفتاء والتي نجحت حيث لم يتعد التصويت في المناطق الكردية نسبة 9 في المئة.

2- خريطة التصويت مهمة أيضاً، ما هي المناطق التي صوتت بنعم، والأخرى التي صوتت بـquot;لاquot;؟ وفي الحقيقة عندما تنظر إلى هذه الخريطة على أرض الواقع، فإن حوالي 85 في المئة من الأراضي تبدو أنها من المؤيدين، لكن هذه المساحات هي في معظمها في الريف أو الجبال وليست مزدحمة بالسكان، بينما الشريط الذي يأتي من الحدود مع بلغاريا وحتى الحدود مع سوريا، والذي يكتظ بالنخبة المتعلمة هم من كونوا غالبية الـ14 مليون نسمة الذين قالوا quot;لاquot;.

ورغم أهمية هذه البيانات، فإن ما يهم في الواقع هو تفسيرها والوصول إلي مغزاها، فمثلاً من ضمن المبررات التي قدمتها الحكومة أهمية quot;دمقرطةquot; النظام التركي أكثر فأكثر حتى تقترب تركيا من تطبيق الشروط المفروضة للانضمام إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وبالرغم من أن الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية رحبت بنتائج الاستفتاء وأعطته هذا المعنى، فإن محدثي من ممثلي الاتحاد الأوروبي في تركيا لم يوافق على هذا مائة في المائة. زملائي الأتراك يربطون بين الاستفتاء واستعداد quot;حزب العدالة والتنميةquot; للانتخابات في العام القادم، أي أن هذا الاستفتاء هو عملية quot;جس نبضquot;، وكذلك تهيئة لميدان المنافسة القادمة وإضعاف للخصم: المؤسسة العسكرية ومعها مؤسسة القضاء.

لكي تكتمل معلوماتي، حاولت الكلام مع رجل الشارع، ولفتت نظري محددان يتحكمان في المسرح الاجتماعي والسياسي التركي:

أولاً: بسبب التطرف العلماني منذ أيام أتاتورك، شعر بعض الأتراك بأن حقهم مهضوم، وأنه تم الإضرار بدينهم وهويتهم، لذلك فثمة حاجة ماسة للتوازن.

ثانياً: لا يزال الشعور متأصلاً بأن العسكر يتمتعون بسلطة وصاية مفرطة على النظام السياسي وحتى الاجتماعي، لذلك يجب quot;قص أجنحتهمquot; بعض الشيء، وذلك عن طريق تغيير بعض قواعد الحكم، ومن هنا أهمية تعديل النصوص الحاكمة.

سيستمر هذا الجدال على أشده في الداخل التركي حتى انتخابات العام القادم وما بعدها. وما يهمنا في المنطقة العربية هو تتبع هذا الجدال، لمعرفة كيف تحاول تركيا بلورة نظام حكم يجمع بين الديمقراطية الليبرالية والإسلام، بمعنى تجاوز أية علاقة صفرية نحو التوفيق بينهما، وقد تكون خلطة quot;الإسلام الناعمquot; أكبر محصلة لحكم quot;حزب العدالة والتنميةquot; القائم منذ ثماني سنوات.