دبي - فاطمة عطفة

الإعلامية المتألقة ليلى الشايب، ابنة تونس الخضراء، أغنت مشاهدي قناة الجزيرة بالكثير من ثقافتها وحسن أدائها وحضورها المتميز. ليلى لم تكتف بأن تكون إعلامية تطل علينا فقط لتقدم الأخبار، بل تجعلك تتأمل وتصغي بارتياح إلى الخبر حتى لو كان مؤلما، لأن إطلالتها الهادئة المشرقة والواثقة تجعل من يستمع إليها يدرك عمق التجربة الثقافية التي تمتاز بها وكم هي جدية ودؤوبة ومخلصة حتى وصلت إلى ما هي عليه.
* تجربة ليلى الشايب غنية ومتميزة، وقد مرت بعدة مراحل: النشأة الأولى، الجامعة، العمل في تونس، العمل في لندن، والعمل في الجزيرة، أي مرحلة منها وضعت بصمة التميز في هذه التجربة؟
* كل مرحلة من هذه المراحل كان لها أثر في تجربتي الإعلامية ولها إضافة فيها وفي حياتي ككل.. كل حلقة تكمل الأخرى، فأنا إعلامية أو إنسانة حصيلة كل تلك المراحل.. وأؤمن الآن بأن كل مرحلة منها كانت تهيئ للأخرى لسبب ما.
* تجربة الغربة، كيف تنظر لها السيدة ليلى بجوانبها السلبية والإيجابية؟
* يصبح للغربة، مع الزمن والمتغيرات، معنى مختلف عن السائد عن الغربة في وجداننا.. فقد تكون غريبا وأنت في وطنك.. (كما يقول أبو حيان التوحيدي)، لا أتحدث عن نفسي، ولكن يحدث ذلك مع كثيرين.. ثم قد نفقد الشعور بالفقد عندما نكون مشبعين بما ننجز وبمن وبما حولنا ونحن بعيدون عن البلد الأم.. كما أن تكنولوجيا الاتصالات قربت المسافات.. أشاهد التلفزيون التونسي باستمرار.. وأتابع المواقع الإلكترونية التونسية والصحف.. الخ. ولكن كل ذلك لا يمنع مشاعر الحنين لدي.. لأماكن بعينها ومراحل ولحظات مرت وعشتها في تونس. يزداد هذا الحنين في السنوات الأخيرة.. أحن إلى الدراسة.. إلى المعهد الثانوي.. إلى الجامعة .. إلى أماكن كنت أرتادها.. إلى روائح.. إلى أجواء.. كلما أذهب إلى تونس أحاول استرجاعها.. أشفق على الشعراء الذين لم يعد بإمكانهم الكتابة عن الغربة كما قرأنا عنها نحن.
* ليلى الشايب إعلامية في الصحافة المقروءة والمسموعة والمرئية، أين تجد نفسها أكثر؟ وأين ترى مسؤولية الكلمة أكبر وأكثر تأثيرا في هذه الوسائل الإعلامية؟
* في معهد الصحافة وعلوم الأخبار تعلمنا كل تقنيات الصحافة بأنواعها المكتوبة والمسموعة والمرئية.. وتخصصت في المرئية والمسموعة، ولكن ذلك لم يمنعني من ممارسة الصحافة المكتوبة عند بداية تخرجي.. عملت في جريدة الصحافة لفترة وجيزة، وبعد ذلك انتقلت إلى التلفزيون التونسي.. ثم اجتذبني منه تلفزيون الـبي بي سي.. وأخيرا قناة الجزيرة. أجد نفسي في كل ذلك.. فلكل منها متعتها وأجواءها وتحدياتها، والمرور بينها يصوغ ويشكل الشخصية الإعلامية لكل منا فيغنيها ويثريها.. ويضفي عليها مرونة. لا أجد مشكلا في كتابة مقالة صحافية ضمن قواعد معينة لو طلب مني ذلك أو قررت، حتى وإن كنت محسوبة على التلفزيون. أما عن مسؤولية الكلمة.. فأعتقد اليوم أن التلفزيون هو الأخطر، على هذا المستوى.. لأن الناس اليوم يشاهدون أكثر مما يقرأون. ومع ذلك، لا ينبغي أن يكون هذا سببا في استهانة أي وسيلة إعلامية أخرى بمسؤوليتها في نقل الحقيقة والرأي، كما توجهها قواعد وأخلاقيات العمل الصحافي.
* إذاعة الـبي بي سي مدرسة مهمة، ومعظم من عمل فيها انفتح أمامه طريق التميز، هل ما زالت في رأيك المدرسة الأولى في الإعلام؟
* الـبي بي سي.. منها كانت انطلاقتي في عالم التلفزيون الفضائي، وهي مرحلة أعتز بها كثيرا، على قصرها.. كانت تحديا خضته بإمكانياتي الشخصية البحتة.. يدفعني طموح الشباب والرغبة في خوض تجربة جديدة كليا.. إنها تبدو اليوم كحلم. يوم دخلت الامتحان الكتابي في تونس.. ثم الشفهي في الرباط في المغرب.. ويوم دخلت مبنى تلفزيون البي بي سي في 'وايت سيتي'.. والتقيت بوجوه كنت أعرفها صوتا فقط: جميل عازر، سامي حداد.. وغيرهما. نعم البي بي سي تفتح أبواب التميز.. وأعتقد أن هذا يسري على فترة بعينها. أمور كثيرة تغيرت اليوم.. الإعلام الفضائي ذهب شوطا بعيدا، وترسخت في المشهد قنوات بعينها أكثر من أخرى وهوامش الجذب بالنسبة لمن التحق متأخرا ضاقت كثيرا.. ثم هناك مشكلة الاختيارات، برامج وأشخاصا.. هناك من وفق في ناحية ولم يوفق في ناحية أخرى. والبي بي سي.. كثيرون انتظروا عودتها بشكل وحجم معين، ولكن لم تكن تلك العودة بمستوى التوقعات.
* ثورة الاتصالات أدت إلى تطوير واسع في التقنيات الإعلامية، هل تطورت خبرات الإعلاميين العرب بما يوازي هذا التطور التكنولوجي؟
* بالفعل، ثورة الاتصالات أدت إلى تطوير واسع في التقنيات الإعلامية، وأعتقد أن جيلا معينا من الإعلاميين العرب طوروا، أو بصدد تطوير خبراتهم بما يوازي هذا التطور التكنولوجي.. من حيث مصادر الخبر التي تعددت وأصبحت متاحة للجميع.. ومن حيث السرعة في التعاطي مع الأحداث، لأن الوقت والسبق أصبحا، بالفعل، لا ينتظران ولا يرحمان.. المدونات والفيس بوك أصبحا منبرا لمن لا منبر له.. والشارع العربي في حالات كثيرة أصبح يتحرك بإشارة من الفيس بوك والمدونات.. هذا التطور ليس كله ايجابيا.. فأخطاره كبيرة أيضا، أقلها أن الناس لم تعد تقرأ كما كانت.
* نلاحظ أن الفضائيات تكرر بعض الأخبار لمدة يومين أو ثلاثة، هل هذا لتعبئة الفراغ.. أو أن المقصود تثبيت خط سياسي معين في ذهن المشاهد؟
* تكرار الفضائيات لبعض الأخبار لأكثر من يوم، ليس تعبئة لفراغ كما يعتقد أحيانا، فالاختيارات والقرارات التحريرية هي التي تملي ذلك، ثم إن الكثير من الأخبار ليست جامدة وإنما تتطور، وما يبدو تكرارا هو في الحقيقة متابعة لمستجدات.. العراق والشأن الفلسطيني.. والأفغاني والإيراني.. وباكستان مؤخرا.. هي كلها عناوين كبرى ثابتة، ولكن مستجدات الأحداث فيها هي المتحركة.. فلا يمكن البتة تجاهل أي منها بدعوى أننا تناولناها بالأمس أو هذا الصباح.
* من خلال برنامجك القديم للنساء فقط، أولا: هل يمكن فصل قضية المرأة عن قضايا المجتمع الأخرى؟ ثانيا: هل استطاعت آراء المشاركات بالبرنامج أن تترك أثرها لصالح حقوق المرأة وحريتها؟
* قدمت بالفعل برنامج للنساء فقط.. وما ترسخ لدي من قناعات، خلال تلك الفترة والآن ولاحقا، أن قضية المرأة لا يمكن فصلها عن قضايا المجتمع الأخرى.. لأن المرأة ببساطة في قلب المجتمع .. هي التي تلد وتربي وترسل من ربتهم إلى المجتمع الواسع، وهي التي تعيل وتعمل.. وهي التي عليها يقع عبء حفظ التوازن داخل الأسرة وخارجها.. وهي التي تمرر القيم بين الأجيال وتستقبل قيما جديدة تغربلها لتمنح أفضلها لأبنائها.. وأنا مؤمنة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن المجتمعات التي نجحت وازدهرت هي التي وضعت المرأة في مقامها الذي تستحقه.. بدون مزايدات أخلاقية أو دينية أو اجتماعية. آراء المشاركات في البرنامج لا يمكن تقييمها ككتلة واحدة .. الأمر تعلق في أحيان كثيرة بالموضوع وبشخصية ومستوى وجرأة الضيفات. هناك من استحسنها جمهور النساء، وهناك من استحسنها جمهور الرجال.. وهناك من شتمت واتهمت بشتى الاتهامات.. الخ. ولكن نظرة المجتمع لقضايا المرأة لا تتغير ببرنامج.. وإنما ببرامج ثم بإجراءات وقرارات.. وتربية متطورة لأجيال جديدة.
* المرأة العاملة، تواجه بعض المصاعب في البيت والحياة بشكل عام، وخاصة في الحقل الإعلامي، كيف تحل ليلى ما يصادفها مع الأهل أو الزوج أو الأولاد؟
* علاقتي بما يصادفني من صعوبات في الموازنة بين العمل والبيت.. أصبحت من قبيل المعايشة.. الوقت هو عدوي الأول.. ثم إنني من النوع الذي لا يقبل التقصير في هذا الجانب أو ذاك.. ولكن، لا شيء كاملا ولا أحد كاملا، فالكمال لله وحده. كل شيء له الأولوية.. وأعلم أن ذلك يبدو غير منطقي، ولكنني أعطي كل شيء حقه.. الأولاد أتابعهم في تفاصيل يومهم.. مدرستهم، نشاطاتهم، صداقاتهم... وعملي هو ملاذي من أمور كثيرة. والقناة ليست مكان عمل فقط وإنما عبارة عن مجتمع مصغر، انتمائي إليه يحيرني أحيانا.. أطلب المساعدة من الأصدقاء عندما لا يسعفني الوقت لإنجاز أمور تتعلق بالبيت أو بتوصيل الأولاد. ولكن عموما أنا في المشهد باستمرار. وأدعو الله أن يمنحني الصحة لكي أستمر.
* بالمقابل، عندما تحدث خلافات وآراء متناقضة في العمل والعلاقة بين الزملاء، ما هي الطريقة التي تتبعها ليلى: تقديم النصيحة والتقريب بين الأطراف؟ أو الابتعاد وعدم الاهتمام؟
* لست من النوع الحشري.. ولا أحب التدخل في شؤون الآخرين، ولا أحب من يتدخل في شؤوني.. إذا فتح أحد الزملاء قلبه وطلب رأيي ومشورتي، عندها أفعل بما أعتقد أنه الأصوب والأقل ظلما لأحد الأطراف. فيما يخصني، تعلمت أنه لا يحك جلدك غير ظفرك.. مهما اجتهدنا أو اجتهد الآخرون من أجلنا. فالنفس البشرية، مهما انكشف منها، تبقى عالما غامضا ومتشعبا ومعقدا.. لا ندرك منها إلا القليل القليل. ولكن الأصل يبقى في أننا لا يمكن أن نعيش في قمقم وننغلق عن الآخرين.. من نعتقد إنهم الأقرب إلينا. أشرت إلى أن الجزيرة قضيت فيها عمرا.. وبالتالي هامش المصادمات ضيق جدا، حتى لا أقول إنه منعدم.
* من خلال تجربتك الطويلة، ما هي نصيحتك للشباب؟ خاصة أنهم يستعجلون الظهور لتحقيق الشهرة قبل امتلاك الأدوات؟
* لن أعمم وأقول إن شباب اليوم كله مستعجل على الظهور وتحقيق الشهرة وو.. ولكن، إن كان من نصيحة أقدمها فسأقول إن العمل في الإعلام كما في أي مجال آخر يطلب.. لكي يعطينا، وأن نحبه لذاته وليس لما سيجلبه لنا... القراءة، القراءة، القراءة.. والمتابعة والشغف الشخصي .. الثقافة العامة وسعة الأفق والاطلاع.. أن يكون للشخص رأي وموقف ورؤية للقضايا التي يتناولها.. وأن يؤمن بأنه قادر على التأثير والتغيير.. ثم أن تكوني أنت، طبيعية.. لا غيرك، حتى وإن أحببت شخصية هذا الإعلامي أو تلك الإعلامية.. كما أن الصدق والشخصية الأصلية التي فيك والتي تظهرين بها للناس هي مفتاحك لقلوبهم وعقولهم.. لن أقول أكثر.. هذه هي المنطلقات، إن كانت ثابتة فالطريق بعدها سالكة.. ولكن بالمثابرة.
* في شهر رمضان الدراما تغزو الشاشات العربية، هل هذه الظاهرة صحية أو يجب إعادة النظر فيها؟
* آه .. مسلسلات ودراما رمضان.. لا أملك الجواب.. لأنني أطرح السؤال نفسه منذ سنوات.. ولم أفهم بعد العلاقة بين رمضان وهذا الهجوم المسلسلاتي! لأعوام متتالية كان أصدقائي وزملائي يسألونني إن كنت أشاهد هذا المسلسل أو ذاك. فأقول: لا أواظب.. ولكثرة ما تكرر السؤال، أشعر بالحرج.. فقررت أن أصبح قليلا مثل الناس.. حتى أجد ما أتحدث عنه في الدردشات. ظاهرة غير صحية طبعا.. الأكل.. ثم ما لا يقل عن 7 أو 8 ساعات مسلسلات.. ودعايات لا تنتهي. يتذكرون التاريخ.. وحياة البدو.. والكوميديا والدراما الاجتماعية في ثلاثين يوما تختزل عاما بأكمله.. والناس يلاحقون القنوات حتى لا يفوتهم شيء.. ثم ينامون سويعات، ويأتون إلى العمل شبه مخدرين.. لا أعرف رمضان هكذا.. وليس هذا المغزى من أجوائه التي يفترض أن تكون روحانية، وما أحوج إنسان اليوم المتوتر إلى هذه الأجواء.. أعتقد أننا بحاجة لإعادة النظر في هذه الهجمة وهذا السباق المحموم... أن تتوزع على باقي شهور السنة، وألا نحمل هذا الشهر الكريم ما لا يحتمل.